الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ }

هذه الآية بيان لأصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع، وهي التي تلي في المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد، الذي تقرر فيما قبلها من الآيات بأبلغ التوكيد، فقوله تعالى: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } يأمر فيه بثلاثة أشياء هي أصول كلية للقواعد الشرعية والآداب النفسية والأحكام العملية (الأصل الأوّل) العفو وهو يطلق في اللغة على خالص الشيء وجيده، وعلى الفضل الزائد فيه أو منه، وعلى السهل الذي لا كلفة فيه، وعلى ما يأتي بدون طلب أو بدون إخفاء ومبالغة في الطلب، وهذه المعاني متقاربة وهي وجودية، ومن معانيه السلبية إزالة الشيء كعفت الرياح الديار والآثار، أو إزالة أثره كالعفو عن الذنب وهو منع ما يترتب عليه من العقاب، فمعاني العفو الوجودية والعدمية أو الموجبة والسالبة كلّها إحسان ورفق، وقد ورد عن مفسري السلف في تفسير العفو هنا أقوال كلّها ترجع إلى هذه المعاني، فرواية العوفي عن ابن عباس في تفسير (خذ العفو) خذ ما عفا لك من أموالهم - أي ما فضل وما أتوك به من شيء. وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها، وبذلك قال السدي وزعم أنّها نسخت بآية الزكاة - وفي رواية الضحاك عنه: أنفق الفضل، ومثلها عن سعيد بن جبير. وفي عدّة روايات عن هشام ابن عروة بن الزبير عن أبيه عن عمّه عبد الله ابن الزبير أن معناها خذ العفو من أخلاق الناس ومثله وفي رواية لهشام عن عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين مثل ذلك وبه قال مجاهد. وروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن العفو هنا الصفح عن المشركين وكان عشر سنين فنسخ بآية السيف، وهذا ضعيف لأن العفو بهذا المعنى لا يعبر عنه بالأخذ لأنّه أمر عدمي هو بالإعطاء أشبه، ولا بالقبول لأنه لم يطلب. وأحسن الزمخشري ما شاء في تصويره معنى العفو بما تعطيه اللّغة فقال: العفو ضد الجهد أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا كقوله صلى الله عليه وسلم: " يسّروا ولا تعسروا " قال:
خذي العفو منّي تستديمي مودتي   ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقيل خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة. فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرها اهـ نقول وبقيت الآية محكمة في صدقة التطوع.

والمختار عندنا أن العفو يشمل هذا وذاك فالمراد به أن من أصول آداب هذا الدين وقواعد شرعه اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة وقد خالف هذه القاعدة الأساسية أهل الفقه المقلوب فجعلوا العسر والحرج من أهم قواعد الدين وأصول الشرع فعلا لا تسمية وقد صحّ في الأحاديث

السابقالتالي
2 3 4 5