الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

هذه الآية من أعظم أصول الدين وقواعد عقائده ببيانها لحقيقة الرسالة والفصل بينها وبين الربوبيّة والألوهيّة، وهدّمها لقواعد الشّرك ومباني الوثنية من أساسها. ومناسبتها لما قبلها أن الله تعالى أمر خاتم رسله فيما قبلها أن يجيب السائلين له عن الساعة بأن علمها عند الله تعالى وحده وأمرها بيده وحده - وأمره في هذه أن يبين للناس أن كلّ الأمور بيد الله تعالى وحده، وأن علم الغيب كلّه عنده، وأن ينفي كلاً منهما عن نفسه صلى الله عليه وسلم وذلك أن الذين كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن الساعة من المسلمين كانوا يظنون أن منصب الرسالة قد يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب وربّما كان يظن بعض حديثي العهد بالإسلام أن الرسول قد يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضرّ عن نفسه وعمن يحب أو يشاء، أو منع النفع وإحداث الضرّ بمن يكره أو بمن يشاء. فأمره الله تعالى أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وأنّما وظيفة الرسول التعليم والإرشاد، لا الخلق والإيجاد، وأنّه لا يعلم من الغيب إلاّ ما يتعلّق بذلك مما علمه الله بوحيه، وأنّه فيما عدا تبليغ الوحي عن الله تعالى بشر كسائر الناسقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ } [الكهف: 110] قال عزَّ وجلّ:

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي قل أيها الرسول للناس فيما تبلغه من أمر دينهم إنّني لا أملك لنفسي - أي ولا لغيري بالأولى - جلب نفع ما في وقت ما، ولا دفع ضرر ما في وقت ما، فوقوع كلمتي النفع والضر نكرتين منفيتين يفيد العموم حسب القاعدة المعروفة، ونفي عموم الفعل يقتضي نفي عموم الأوقات له. ولكن هذا العموم مشكل بما هو معلوم بالضرورة من تمكن كلّ إنسان سليم الأعضاء من نفع نفسه وغيره في بعض الأمور الكسبية ودفع بعض الضرر عنهما: ولذلك حرمت الشريعة الضرر والضرار.

ويجاب عن هذا الإشكال من وجهين:

أحدهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً مستقلاً بقدرته وإنّما يملك ما يملكه من ذلك بتمليك الرّب الخالق جلّت قدرته وهو المراد بالإستثناء أي لا أملك منهما { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } من نفع أقدرني على جلبه وضر أقدرني على منعه وسخّر لي أسبابهما، أو إلاّ وقت مشيئته سبحانه أن يمكنني من ذلك. فالمعنى المراد على هذا هو بيان عجز المخلوق الذاتي وكون كلّ شيء أوتيه فهو بمشيئة الله تعالى لا يستقل العبد بشيء منه استقلالاً مطلقاً ولا هو يملكه بذاته لذاته، بل بمشيئة الله تعالى، فالإستثناء على هذا متّصل بما قبله مخصّص لعمومه مقيّد لإطلاقه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7