الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً } ذكر في أوّل مادة (أ س ف) من لسان العرب أن الأسف شدّة الحزن والغضب. والأكثرون لا يشترطون شدّتهما.

قال في المصباح: أسف أسفاً من باب تعب حزن وتلهّف فهو أسف مثل تعب، وأسف مثل غضب وزناً ومعنى، ويعدي بالهمزة فيقال آسفته.

وقال الراغب: الأسف الحزن والغضب معاً، وقد يقال لكلّ منهما على الإنفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الإنتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً، ولذلك سُئل ابن عباس عن الحزن والغضب؟

فقال مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمَنْ نازع مَنْ يقوى عليه أظهره غيظاً وغضباً، ومَنْ نازع مَنْ لا يقوى عليه أظهره حزناً وجزعاً. وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كلّ أخي حزن أخو الغضب   
ثمّ ذكر أن الأسف في الآية التي نفسرها هو الغضبان فهو إذا مترادف، وقد فاته هنا ما نعهد من تحقيقه لمدلولات الألفاظ وما أظن أن ما نقله عن ابن عباس يصحّ فإن ما ذكر من المقابلة بين الغضب والحزن إنّما يظهر بين الغضب والحقد، وإنّما الحزن ألم النفس بفقد ما تحب من مال أو أهل أو ولد. وليس من شهوة الإنتقام في شيء. ومن شواهد استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام:وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] ومن شواهد استعماله بمعنى الغضب قوله تعالى:فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] ولا يوصف تعالى بالحزن ولا يسند إليه.

وغضبه سبحانه ليس كغضب البشر ألماً في النفس، ولا أثراً لغليان دم القلب، تعالى عن هذه الإنفعالات والآلام البشريّة، وإنّما هو صفة تليق به هي سبب العقاب. والجمع بين الغضبان والأسف في صفة موسى عليه السلام يدلّ على أنّ الأسف بمعنى الحزين.

والمعنى: أنّه لمّا رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هارون إذ رأى أنّه ضعف في سياسته لهم، ولم يكن ذا عزيمة في خلافته فيهم، حزيناً على ما وقع منهم من كفر الشرك، وإغضاب الله عزَّ وجلّ: { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ } أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابي عنكم إلى مناجاة الرب تعالى من بعد ما كان من شأني معكم أن لقنتكم التوحيد وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وبطلانه وسوء عاقبة أمره حيث رأيتم القوم الذين يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر - فكان الواجب عليكم أن تخلفوني بإقتفاء سيرتي ولكنّكم خلفتموني بضدّها، إذ صنعتم لكم صنماً كأصنام أولئك القوم أو كأحد أصنام المصريين فعبده بعضكم، ولم يردعكم عن ذلك سائركم - فالتوبيخ عام، وفيه تعريض خاص بهارون عليه السلام لأنّه جعله خليفته فيهم كما تقدّم.

السابقالتالي
2 3 4 5