الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

انتهى بالآية التي قبل هاتين الآيتين فصل من فصول قصّة موسى عليه السلام وهاتان الآيتان استئناف مرتب على جملة ما تقدّمه منها بين الله فيه لخاتم رسله في الأولى منهما سنّته في ضلال البشر بعد مجيء البينات في كلّ زمان ويدخل فيه قوم فرعون من الغابرين دخولاً أولياً وينطبق على رؤساء كفار قريش المعاندين له صلى الله عليه وسلم من الحاضرين وبين في الثانية جزاءهم على تكذيبهم وكفرهم، قال: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } هذا بيان لسنّته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم وسببه الأوّل التكبّر، فإنّ من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والإستدلال على الحق والهدى لأجل اتباعه فهم يكونون دائماً من المكذّبين بالآيات الدالة على عليهما الغافلين عنها وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه.

وإنّما ذكرت هذه السنّة العامّة من أخلاق البشر بصيغة المستقبل لإعلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من مشيخة قومه لن ينظروا في آيات القرآن الدالّة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة من وجوه: كثيرة بيّناها مراراً، والدالة على وحدانيّة الله تعالى بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة ولا في غيرها ممّا أيّده ويؤيّده به من آياته الكونيّة لتكبرهم في الأرض بالباطل فوجهة نظرهم تنحصر في تفضيل أنفسهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنّهم سادة قريش وكبراؤها وأغنياؤها وأقوياؤها فلا يليق بهم أن يتّبعوا مَنْ هو دونهم سنّاً وقوّة وثروة وعصبيّة، والمعنى سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق من قومك أيّها الرسول ومن غيرهم في كلّ زمان ومكان كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى.

والتكبّر صيغة تكلّف أو تكثّر من الكبر الذي هو غمط الحق بعدم الخضوع له واحتقار الناس، فهو شأن مَنْ يرى أنّه أكبر من أن يخضع لحق، أو يساوي نفسه بشخص، والأصل الغالب في التكبير أن يكون بغير الحق وقد يتصوّر أن يتكلّف الإنسان أعلاء نفسه على غيره أو إكثاره من الإستعلاء عليه بحق كالترفع عن المبطلين وإهانة الجبارين واحتقار المحاربين، فقوله تعالى: { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } يكون على هذا صلة للتكبر وهو قيد له، وإلاّ كان بياناً للواقع.

أو المعنى إنّهم يتكبّرون حالة كونهم متلبّسين بغير الحق أي منغمسين في الباطل فأمثال هؤلاء لا قيمة للحق في نفسه عندهم فهم لا يطلبونه ولا يبحثون عنه وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون، كما قال تعالى في آل فرعونوَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل: 14] وقال في طغاة قريش:فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ }

السابقالتالي
2 3