الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }

لمّا ذكر تعالى عاقبة تلك الآيات وتأويلها في المصريين عطف عليه بيان عاقبتها وتأويلها في بني إسرائيل بهذه الآية الجامعة البليغة فقال عزَّ وجلّ: { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } تعدد في القرآن التعبير عن إستخلاف الله قوماً في أرض قوم بالإيراث أي وأعطينا القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر بما تقدّم بيانه جميع الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير مشارقها من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر، تحقيقاً لوعدناوَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [القصص: 5-6].

روي عن الحسن البصري وقتادة أنهما قالا في تفسير { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } هي أرض الشام، وعن زيد بن أسلم قال: هي قرى الشام، وعن عبد الله بن شوذب: فلسطين، وعن كعب الأحبار قال إن الله بارك في الشام من الفرات إلى العريش. ويؤيد هذه الروايات قوله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم:وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 71] وقوله تعالى:وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [الأنبياء: 81] وقوله عزَّ وجلّ:سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء: 1].

وروي عن الليث بن سعد أنها أرض مصر التي كان فيها بنو إسرائيل وأطلق بعض المفسّرين القول بأنها أرض مصر وفلسطين جميعاً.

وربّما يتراءى أن إرادة أرض مصر هي الظاهر المتبادر من قوله تعالى في قوم فرعون من سورة الشعراء:فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 57-59] وقوله فيهم من سورة الدخان:كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [الدخان: 25-28] لأن فرعون خرج بمن معه من الملأ والجند من مصر وتركوا ما كانوا فيه من النعيم، إلى الغرق المؤدّي إلى الجحيم، ولكن هذا الوصف أظهر في بلاد الشام ذات الجنات الكثيرة، والعيون الجارية، ومعنى إخراج المصريين منها إزالة سيادتهم وسلطانهم عنها وحرمانهم من التفكه بنعيمها فقد كانت بلاد فلسطين، إلى الشام تابعة لمصر، وكان من عادة فراعنة مصر كغيرهم من الأمم المستعمرة أن يقيموا في البلاد التي يستولون عليها حكّاماً وجنوداً لئلاّ تنتقض عليهم، وأن يسكنها كثيرون منهم يتمتعون بخيراتها.

وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى:عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 129] جملة من الأثر المصري القديم الوحيد الذي وجد فيه ذكر لبنيّ إسرائيل تنطق بأن هذه البلاد كانت تابعة لمصر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6