الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } * { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } * { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } * { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ }

{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُون } أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فقد جاء وقتها فألقاها كما أمر فإذا هي تلقف ما يأتون به من الإفك. ذكر هنا وفي سورة طه أمره تعالى لموسى بالإلقاء وفي سورة الشعراء أنّه فعل الإلقاء الذي أمر به ولم يذكر الأمر فحذف من كلّ سورة ما أثبت مقابله في الأخرى وهو من قبيل الإحتباك في السور والإيجاز المؤدّي للمعاني المتعددة بأخصر عبارة. قرأ حفص تلقف بالتخفيف من الثلاثي والباقون بالتشديد وأصله تتلقف وهو يدل على لقف شيء بعد شيء.

ما معنى لقف العصا للإفك؟ الإفك بالكسر اسم لما يؤفك أي يصرف ويحوّل عن شيء إلى غيره، ويستعمل في التلبيس والشر وقلب الحقائق، وبالفتح مصدر أفك " بالفتح كجلس وضرب " ويقال إفك بالكسر " كتعب " قال في الأساس: إفكه عن رأيه صرفه، وفلان مأفوك عن الخير، وقال الراغب الإفك كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب مؤتفكة قال تعالى:وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } [الحاقة: 9] وقال تعالى:وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } [النجم: 53] وقوله تعالى:قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [التوبة: 30] أي يصرفون عن الحق في الإعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق في المقال إلى الكذب، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح. ومنه قوله تعالى:يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9]أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [التوبة: 30] وقوله:أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } [الأحقاف: 22] فاستعملوا الإفك في ذلك لما اعتقدوا أن ذلك صرف عن الحق إلى الباطل - فاستعمل ذلك في الكذب لما أقلنا اهـ ويعلم منه ومن سائر إستعمال المادة في القرآن وغيره أن الإفك يكون بالقول ومنه الكذب وما يؤدي المراد من الكذب كالإبهام والتدليس والتجوزات والكنايات والمعاريض التي توهم السامع أو القاريء لها ما يخالف الحقّ، وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون.

وأما لقف الشيء وتلقفه بالتشديد فهو تناوله بحذق وسرعة كما قال الشاعر:
كرة حذفت بصوالجة   فتلقفها رجل رجل
قال الراغب لقفت الشيء ألقفه " أي من باب علم " وتلقفته تناولته بالحذق سواء في ذلك تناوله بالفم أو اليد قال { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } اهـ ومن مجازة تلقف العلم أي تلقيه بسرعة وحذق. وما في قوله تعالى: " ما يأفكون " إما موصولة وإما مصدرية وعلى الأوّل يتخرج ما نقل عن ابن عباس وقتادة والحسن والسدي من كون عصا موسى عليه السلام التقمت حبال السحرة وعصيهم واسترطتها أي ابتلعتها فهو ممّا يحتمله اللفظ، والراجح أنّه مأخوذ عن اليهود لما علمت آنفاً من نص سفر الخروج فيه. وينافيه كونها مصدرية إذ المعنى عليه أنها تناولت عملهم هذا فأتت عليه بما أظهرت من بطلانه وحقيقة الأمر في نفسه بسرعة، فإن كان إفكهم عبارة عن تأثير أحدثوه في الأعين فلقفها إياه عبارة عن إزالته وإبطاله ورؤية الحبال والعصي على حقيقتها - وإن كان تحريكاً لها بمحركات خفية سريعة فكذلك - وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوة بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة سواء كانت ناراً أعدت لها والشمس حين أصابتها فلقفها لذلك يجوز أن يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصي فانكشفت به الحيلة.

السابقالتالي
2 3