الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَٰتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } * { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } * { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }

هذه الآيات الأربع إنذار لأمّة الدعوة المحمديّة عربها وعجمها من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما نزل بغيرها. كما ترشد إليه الرابعة منها.

وأهل القرى فيها يراد به الجنس أي الأمم، ويحتمل أن يكون المراد به من ذكر حالهم فيما تقدّم وضع المظهر فيه موضع المضمر ليدل على أن مضمونها ليس خاصاً بأقوام بأعيانهم فيذكر ضميرهم بل هو قواعد عامة في أحوال الأمم، فيراد بالإسم المظهر العنوان العام لها، لا آحاد ما ذكر منها، ولو ذكرها بضميرها أو اسم الإشارة الذي يعينها، لدل على أن العقاب كان خاصاً بها لا داخلاً في أفراد سنّة عامّة، وهذا عين ما كان يصرف الأقوام الجاهلة الكافرة عن الإعتبار بعقاب من كان قبلها، ويحتمل أن يكون المراد به أهل أم القرى عاصمة قوم الرسول الخاتم وعشيرته الأقربين وسائر قرى الأُمم التي بُعث صلى الله عليه وسلم إلى أهلها من حيث إن بعثته عامّة.

{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَٰتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } الإستفهام للتذكير والتعجيب من أمر ليس من شأنه أن يقع من العاقل والفاء عطف على محذوف تقديره على الوجه الأوّل. أغر أهل تلك القرى ما كانوا فيه من نعمة حين كذبوا الرسل فأمنوا أن يأتيهم بأسنا؟ إلخ وعلى الثاني أجهل أهل مكّة وغيرها من القرى التي بلغتها الدعوة - ومثلها من ستبلغها - ما نزل بمن قبلهم وغرهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم - أو إتيان بيات - وهو الهجوم على العدو ليلا وهو بائت فقوله: " وهم نائمون " حال مبينة لغاية الغفلة وكون الأخذ على غرة كما قال فيمن عذبوا " فأخذتهم بغتة " وليراجع تفسير الآية 3 من هذه السورةوَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4].

{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر، " أو " بسكون الواو، والمعنى بحسب أصل اللغة أأمنوا ذلك الأتيان أو هذا؟ وهو لا يمنع الجمع بين الأمنين - وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف كالذي قبله، وقد أعيد الإستفهام وما يتعلّق به لنكتة وضع المظهر موضع المضمر التي بينّاها آنفاً. والضحى إنبساط الشمس وامتداد النهار " يسمى به الوقت، أو ضوء الشمس في شاب النهار، واختاره الأستاذ الإمام. واللعب بفتح اللام وكسر العين ما لا يقصد فاعله بسبب منفعة ولا دفع مضرة بل يفعله لإنس له به أو لذة له فيه كلعب الأطفال، وما يقصد به العقلاء رياضة الجسم قد يخرج عن حقيقة اللعب ويكون إطلاقه عليه مجارياً بحسب صورته، وكم من عمل صورته لعب أو هزل، وحقيقته حكمة وجد، وكم من عمل هو عكس ذلك كالعمل الفاسد الذي يقصد به ما يظن أنّه نافع وهو ضار، وما يتوهم أنّه حكمة وهو عبث وخرق، وقد يكون إطلاق اللعب على أعمال هؤلاء الجاهلين الغافلين من هذا الباب: أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا في وقت الضحى وهم منهمكون في أعمالهم التي تعد من قبيل لعب الأطفال لعدم فائدة تترتب عليها مطلقاً أو بالنسبة إلى ما كان يجب تقديمه عليها من سلوك سبيل السلامة من العذاب؟

فأمّا أهل القرى من الغابرين فالظاهر ما حكاه الله تعالى عنهم أنهم كانوا آمنين إتيان هذا العذاب ليلا ونهاراً فكان إتيانه إياهم فجأة في وقت لا يتسع لتلافيه وتداركه فالإستفهام لا يظهر في شأنهم إلاّ بتأول لا يحتاج إلى مثله في أهل القرى الحاضرين، ومن سيكون في حكمهم من الآتين، والمراد أنّه لم يكن لهم أن يأمنوا لو كانوا يعلمون، فإن وجود النعم ليس دليلاً على دوامها، فكم من نعمة زالت بكفر أهلها، وهذا ما كان يجهله الذين قالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء، فرأوا صورة الواقع وجهلوا أسبابه.

السابقالتالي
2 3 4 5