الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

تقدم أن الله تعالى بدأ هذه السورة بذكر إنزال القرآن على خاتم الرسل لينذر به جميع البشر فيما يدعوهم إليه من دينه، وبيان أساس الدين الإلهي وهو أن واضع الدين هو الله تعالى رب العباد فالواجب فيه اتباع ما أنزله إليهم وأن لا يتبعوا من دونه أولياء يتولونهم ويعملون بما يأمرونهم به من عبادة وحلال وحرام وأنه قفى على ذلك ببيان نوعي العذاب الذي أنذر به من يتبعون أولئك الأولياء أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فهذا موضوع الآيات السابقة.

ولما كان الدين الذي أمر تعالى باتباع التنزيل فيه دون غيره - إلا ما بينه من سنة الرسول المنزل عليه بأمره - هو دين الفطرة المبين لكل ما يوصلها إلى كمالها والناهي لها عن كل ما يحول بينها وبين هذا الكمال، وكان افتتان الناس بأمر المعيشة من أسباب إفساد الفطرة بالإسراف في الشهوات، من حيث إنه يجب أن تكون نعم الله عليهم بما يحتاجون إليه من أمر المعيشة سبباً لإصلاحها بشكر الله عليه الموجب للمزيد منه - لما كان الأمر كذلك ذكر سبحانه الناس في هذه الآية بنعمه عليهم في التمكين في الأرض وخلق أنواع المعايش فيها وهو بدء سياق طويل فيه بيان خلق نوعهم الإنساني مستعداً للكمال وما يعرض له من وسوسة الشيطان التي تصده عنه، وما ينبغي لأفراده من اتقاء فتنة هذه الوسوسة وعدم اتخاذ شياطينها الملقين لها أولياء يتبعونهم دون ما أنزل إليهم من ربهم، فإنهم هم الذين يحملونهم بذلك على كفر النعم عوضاً عن الشكر، وعلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه، ويتلوه ما شرعه لهم من الزينات والطيبات وما حرمه عليهم فيهما.

فهذا السياق الإستطرادي أو المشبه للإستطراد يبتدئ من الآية العاشرة إلى الآية الثالثة والثلاثين، ثم يعود الكلام إلى ذكر دعوة الرسل للأمم وجزاء من آمن بهم واتبعهم ومن كفر بهم وعصاهم، وفيه تفصيل لما أجمل في الآيتين اللتين قبل هذه الآية من جزاء الآخرة - فتأمل دقة بلاغة التناسب بين آيات القرآن فإنها نوع خاص من أنواع إعجازه الكثيرة قال تعالى:

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي جعلنا لكم فيها أوطاناً تتبوءونها وتتمكنون من الراحة في الإقامة فيها وتأكيد الخبر باللام وقد لتذكير الغافلين عن كونه من نعم الله عليهم به وبما عطف عليه من قوله: { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } جمع معيشة وهي ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها. أي وأنشأنا لكم فيها ضروباً شتى مما تعيشون به عيشة راضية.

والنكتة في تقديم { لَكُمْ فِيهَا } على { مَعَايِشَ } مع أن الأصل أن يقدم المفعول به على غيره من متعلقات الفعل هو أن المقصود من ذكر خلق المعايش كونها نعماً منه سبحانه على الناس جعلهم مالكين لها، متمكنين من الإنتفاع بها، لا كونها مجعولة ومخلوقة، والقاعدة في تقديم بعض الكلام على بعض هي أن يقدم المقصود بالذات والأهم فالأهم منه كما حققه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز.

السابقالتالي
2