بينا في تفسير الآيات السابقة أن الثلاث الأولى منها قد أرشدت إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث والآيات الدالة عليهما، وأن الثلاث التي بعدها أرشدت إلى سبب تكذيب قريش بذلك وهو الحق المبين بالدليل، وأنذرتهم عاقبة هذا التكذيب، وهو ما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم مغرورون به من قوتهم وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في أرض مكة وهي أم القرى وأهلها قدوة العرب. وقد بين تعالى في هذه الآيات الثلاث شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتم روى بها بيان أسباب جحودهم بأركان الإيمان كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وقد روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق ما قد يعد سبباً لنزول الآية الثانية من هذه الثلاث قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك - فأنزل الله في ذلك من قولهم: { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ }. ولا تصح هذه الرواية في سبب نزول الآية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور ولم يذكرها في (باب النقول في أسباب النزول) وإقتراح معاندي المشركين إنزال الملك مع الرسول ذكر في الفرقان وهود والإسراء؛ وقد روي إن هذه السور الثلاث نزلت قبل الأنعام، والأنعام نزلت جملة واحدة - على ما تقدم بيانه في أول تفسيرها - فما فيها من الرد عليهم في هذه المسألة إنما هو رد على شبهة سبقت لهم وحكيت عنهم، وكذلك إقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة فهو في سورة الفرقان. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعجب من كفر قومه به وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه، وظهور إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك وينال منه الحزن والأسف كما قال تعالى في سورة هود:{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } [هود: 12] وما في معناه. وكان الله عز وجل يبين له أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم وإختلاف إستعدادهم، ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة، والشبهة مهما تكن داحضة، فإن ذلك لا يستلزم الإيمان مما قدمت عليه الحجة، وانحسرت عنه غمة الشبهة، إلا في حق من كان مستعداً له، وزالت موانع الكبر والعناد أو التقليد عنه، فقوله تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } جاء بعد تلك الآيات البينات الواردة بأسلوب الحكاية وضمائر الغيبة مبيناً هذا المعنى للرسول بأسلوب الإلتفات إلى خطابه صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: قد علمت أن علة تكذيبهم بالحق إنما هي إعراضهم عن الآيات، وما أقفلوا على أنفسهم من باب النظر والاستدلال، لإخفاء الآيات في نفسها، ولا قوة الشبهات التي تحول دونها، ألم تر أن آيات التوحيد في الأنفس والآفاق هي أظهر الآيات وأكثرها.