الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }

أمر الله تعالى رسوله في الآيات السابقة أن يبين لعباده إحاطة علمه وشمول قدرته، وإستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم، وكونه هو مولاهم الحق الذي يحاسبهم ويجازيهم عليها بعد أن يميتهم ثم يبعثهم. ثم أمره بهذا القول أن يذكرهم بشيء يجدونه في أنفسهم ويقولونه بأفواههم، ويغفلون عما يستلزمه من كون الله تعالى هو مولاهم الحق الذي يجب توحيده وإفراده بالعبادة، ولا سيما مظهرها الأعلى وهو الدعاء في الرخاء كالدعاء في الشدة، فقال:

{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ظلمات البر والبحر قسمان ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالطرق والمسالك، وظلمة فقد الصوى والمنار، أو إشتباه الأعلام والآثار، وظلمة الشدائد والأخطار، كالعواطف والأعاصير وهياج البحار، أو مساورة الأفاعي والسباع، أو مكافحة العدد الكثير من الأعداء، وتسمية هذه الأمور المعنوية ظلمات من المجاز كتسمية الجهل والكفر والضلال بذلك - وهو كثير في التنزيل - ونقلوا أنه قيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب.

وأقول لا يصح إطلاق الظلمة على كل شدة، بل على الشدة التي لها عاقبة سيئة مجهولة تخشى ولا تعلم، فهو يرجع إلى معنى الجهل.

والتضرع المبالغة في الضراعة وهي الذل والخضوع وقال الراغب هو إظهار الضراعة بعد أن فسرها بالضعف والذل، والإظهار قد يكون إظهار ما هو واقع وقد يكون إظهار ما هو غير واقع على سبيل الرياء، والمراد بالتضرع هنا ما هو صادر عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري المطوي في أنفس البشر.

والخفية - بالضم والكسر - الخفاء والإستتار، فإذا كان التضرع إظهار الحاجة إلى الله تعالى والتذلل له بالجهر بالدعاء، ورفع الصوت به مع البكاء، فالخفية في الدعاء عبارة عن إسراره هرباً من الرياء وهاتان حالتان تعرضان للإنسان عند شعوره بالحاجة إلى الله تعالى ويأسه من الأسباب، تارة يجأر بالدعاء رافعاً صوته متضرعاً مبتهلاً. وتارة يسر الدعاء ويخفيه مخلصاً محتسباً، ويتحرى أن لا تسمعه أذن، ولا يعلم به أحد، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول، وأرجى لنيل السؤل.

والمعنى قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم، وما أودع من آيات التوحيد في أعماق فطرتهم؛: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر الحسية والمعنوية عندما تغشاكم في أسفاركم حال كونكم تدعونه عند وقوعكم في كل ظلمة منها دعاء تضرع ودعاء خفية قائلين { لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } أي مقسمين هذا القسم في دعائكم: لئن أنجانا الله من هذه الظلمة أو الداهية المظلمة لنكونن من المتصفين بالشكر الدائم له، المنتظمين في سلك أهله، وفي قراءة (لئن أنجيتنا) بالخطاب وسيأتي.

السابقالتالي
2