الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } * { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

بين لنا تعالى في الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إليه إلجاء بالآيات القاسرة، بل اقتضت حكمته ومضت سنته في البشر بأن يكونوا متفاوتين في الإستعداد، عاملين بالإختيار، فمنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستحب العمى على الهدى، ثم بين لنا في هاتين الآيتين أن الأولين هم الذين ينظرون في الآيات، ويعقلون ما يسمعون من البينات، وأن الآخرين لا يسمعون ولا ينظرون حتى كأنهم من الأموات، فقال عز وجل:

{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } يقال أجاب الدعوة إذا أتى ما دعي إليه من قول أو عمل، وأجاب الداعي إذا لباه وقام بما دعاه إليه؛ ويقال: استجاب له وهو في القرآن كثير، واستجاب دعاءه، وكذا استجابه، نعرف منه قول كعب بن مرثد الغنوي في رثاء أخيه:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى   فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قالوا إن الإستجابة بمعنى الإجابة ولذلك قال فلم يستجبه مجيب. وقال الراغب والإستجابة قيل هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له لكن عبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها. اهـ.

وهذا من دقائق تحديده للمعاني رحمه الله تعالى ولكنه لم يحط به، وحقيقة الجواب والإجابة كما يؤخذ من قوله - قطع الصوت أو الشخص الجوب أو الجوبة وهي المسافة بين البيوت أو الحفرة ووصوله إلى الداعي، أي وصول ما سأله إليه بالفعل، وأما الإستجابة فهي: التهيؤ للجواب أو للإجابة أي المستلزم للشروع والمضي فيها عند الإمكان وغايته الإجابة التامة عند عدم المانع. فالسين والتاء على معناهما.

ومن دقق النظر في استعمال الصيغتين في القرآن الحكيم يظهر له أن أفعال الإجابة كلها قد ذكرت في المواضع المفيدة لحصول السؤال كله بالفعل حقيقة أو ادعاءً دفعة واحدة. ومنه الإجابة بالقول مثل نعم ولبيك ولك ذلك. وإن الإستجابة قد ذكرت في المواضع المفيدة لحصول السؤال بالقوة أو التهيؤ والإستعداد له - ومنه قوله تعالى:ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ } [آل عمران: 172] فهو قد نزل في تهيؤ المؤمنين للقتال في حمراء الأسد بعد أحد - أو بالفعل التدريجي، كإستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالقبول والشهادتين ثم تكون سائر الأعمال بالتدريج، وشواهده كثيرة.

والإستجابة من الله القادر على كل شيء إنما يعبر بها في الأمور التي تقع في المستقبل، ويكون الشأن فيها أن تقع بالتدريج كإستجابة الدعاء بالوقاية من النار، وبالمغفرة وتكفير السيئات، وإيتاء ما وعد به المؤمنين في الآخرة، قال تعالى بعد حكاية هذا الدعاء بذلك عن أولي الألبابفَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ }

السابقالتالي
2 3 4 5