الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

كان المشركون أصنافاً متفاوتين في الفهم والعقل وفي الكفر وأسبابه، وقد بين الله أحوال كل فريق منهم في كتابه فمنهم أصحاب الذكاء واللوذعية الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ويعقلون أنه لا يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو بالذي يستطيع الإتيان بمثله في نظمه وفصاحته وبلاغته، ولا في علومه وحكمه ومعارفه، إذ لو كان مثله مما تصل إليه قدرته لظهر على لسانه شيء من مثله أو ما يقرب منه فيما مضى من حياته - وهو أربعون سنة ونيف.. وقد أمره الله تعالى أن يقيم عليهم هذه الحجة بقوله:فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16] وما كان كفر أمثال هؤلاء إلا عن كبر وعناد ومكابرة للحق.

ومنهم من كان يعرض عن سماع القرآن خشية أن يؤثر في قلبه، وينتزعه من الدين الذي ألفه طول عمره، ومنهم من كان يصغي سمعه إلى القرآن بقصد الإكتشاف والإختبار، ولكنه لا يعقل المراد منه، ولا يفقه حججه وبيناته، إما لعدم توجه ذهنه إلى ذلك لعراقته في التقليد والأنس بما درج عليه الآباء وهو الأكثر، وإما للبلادة وانحطاط الكفر عن التسامي إلى هذه المعارف العالية فيه، وكان هذا قليلا في العرب ولا سيما أهل مكة وهم أفصح قريش التي هي أفصح العرب.

وقد بين الله تعالى حال هذا الفريق الذي لم يكن حظه من الإستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا كحظ النعم من سماع أصوات البشر فقال: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أيها الرسول إذا تلوت القرآن داعياً إلى توحيد الله منذراً يوم القيامة { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } أي وجعلنا على آلة الفهم والإدراك من أنفسهم - وهي قلب الإنسان ولبه - أغطية حائلة دون فقهه، ونفوذ الإفهام إلى أعماق علمه، وفي آذانهم وقراً أي ثقلا أو صمماً حائلا دون سماعه بقصد التدبر واستبانة الحق منه.

ومعنى هذا الجعل ما مضت به سنة الله تعالى في طباع البشر من كون التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه يكون مانعاً له باختياره من النظر والإستدلال والبحث عن الحقائق، فهو لا يستمع إلى متكلم ولا داع لأجل التمييز بين الحق والباطل، وإذا وصل إلى سمعه قول مخالف لما هو دين له أو عادة لا يتدبره ولا يراه القلوب جديراً بأن يكون موضوع المقابلة والتنظير مع ما عنده من عقيدة أو رأي أو عادة. وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية، بالحجب والموانع الحسية، فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم لأن سمعها وعدمه سواء، والأكنة جمع كنان كالأسنة جمع سنان، والوقر بالفتح الثقل في السمع والصمم وبالكسر الحمل، يقال: وقر سمعه يقر فهو موقور، إذا كان لا يسمع، وأوقر الدابة فهي موقرة.

السابقالتالي
2 3