الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَٰتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } * { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } * { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } * { ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

روي إن قريشاً أرسلت إلى المدينة من سأل اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى مكة فزعموا أن اليهود قالوا ليس له عندنا ذكر، فلما صار لهم عهد باليهود كان مما رد الله تعالى به عليهم في هذه السورة قوله بعد ما تقدم من الحجج { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } أي يعرفون محمداً النبي الأمي خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم لأن نعته في كتبهم واضح ظاهر. وقد تقدم نص هذه الجملة في سورة البقرة كآيات أخرى في معناها وبينا في تفسيرها ما يؤيدها من شواهد التوراة والإنجيل.

ثم بيّن تعالى علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال: { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قيل إن { ٱلَّذِينَ } هنا بيان للذين الأولى أو بدل منها، ويجوز أن يكون مبتدأ، أي الذين خسروا أنفسهم منهم فهم لا يؤمنون به بل يكفرون كبراً وعناداً فهم لذلك ينكرون ما يعرفون. وقد بيّنا قريباً معنى هذه الجملة إذ وردت بنصّها في الآية الثانية عشرة من هذه السورة والعهد بها قريب، وموقعها هنا أن علة إنكار من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من علماء اليهود كعلّة إنكار من أنكرها من المشركين بعد ظهور آياتها وأنكر ما هو أعظم منها وأظهر وهو وحدانية الله تعالى، وهي أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون ما لهم من الجاه والمكانة والرياسة في قومهم، على الإيمان بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، لعلمهم بأن هذا الإيمان يسلبهم تلك الرياسة ويجعلهم مساوين لسائر المسلمين في جميع الأحكام، وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعز عليه أن يؤمن فيكون مرؤوساً وتابعاً [ليتيم أبي طالب] فكيف وهو يكون بعد ذلك مساوياً لبلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهم من فقراء المسلمين، فخسران هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية لأنفسهم هو من قبيل ضعف الإرادة لا من نوع فقد العلم والمعرفة لأن الله تعالى أخبر أنهم على معرفة صحيحة في هذا الباب. وروي أن خسران النفس هنا عبارة عن خسرانها في الآخرة فقط بخسران أمكنتهم التي كانت معدة لهم في الجنة لو آمنوا بالرسول وإعطائها للمؤمنين، ولما كان هذا الخسران أعظم ظُلم ظَلَمَ به هؤلاء الكفار أنفسهم قال تعالى فيهم:

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَٰتِهِ } أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً كزعم من زعم أن له ولداً أو شريكاً أو أن غيره يدعى معه أو من دونه ويتخذ ولياً له يقرب الناس إليه زلفى ويشفع لهم عنده، أو زاد في دينه ما ليس منه - أو كذب بآياته المنزلة كالقرآن المجيد، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله، وإذا كان كل من هذا التكذيب وذلك الكذب والإفتراء يعد وحده غاية في الظلم ويطلق على صاحبه إسم التفضيل فيه فكيف يكون حال من جمع بينهما فكذب على الله وكذّب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة؟

ثم بين سوء عاقبة الظالمين فقال: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } هذا استئناف بياني وقع موقع جواب السؤال أي الحال والشأن أن الظالمين عامة لا يفوزون في عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله تعالى ولا بنعيم الجنة مهما يكن نوع ظلمهم، فكيف تكون عاقبة من وصف بأنه لا أحد أظلم منه لإفترائه على الله تعالى أو لتكذيبه بآياته؟ ثم كيف تكون عاقبة من جمع بين هذين الأمرين الأقبحين فكان أظلم الظالمين؟

الآية نزلت في الكافرين فلهذا يغفل الناس عن صدقها على من كذب على الله تعالى وهو يسمي نفسه أو يسميه الناس مؤمناً أو مسلماً، كأن يقول بقول أولئك المشركين فيتخذ غير الله ولياً ويدعوه ليشفع عنده، أو يزيد في دين الله برأيه فيقول: هذا واجب، وهذا حلال وهذا حرام فيما لم ينزل الله به وحياً ولا كان مما بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه.

السابقالتالي
2 3