الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } * { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }

إفتتح الله تعالى كتابه بالحمد، ثم إفتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها، الأولى الأنعام وهي آخر سورة كاملة في الربع الأول من القرآن، والكهف وهي أول سورة في الربع الثالث، وسبأ وفاطر وهما آخر الربع الثالث، وليس في الربع الثاني ولا الثالث سورة مفتتحة بالحمد. وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده وكل منهما سمي نوراً بل هما أعظم أنوار الهداية، وفي الثالثة بخلق السماوات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج فيها - والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة، والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء وتعرج فيها. فظهر بها إن السور الثلاث مفصلة لما أجمل في الأولى (الأنعام) مما حمد الله عليه، كما أنها مؤيدة لما فيها من إثبات التوحيد والرسالة والبعث.

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } الحمد هو الثناء الحسن والذكر بالجميل - كما تقدم شرحه في سورة الفاتحة - وإسناد الحمد إلى الله تعالى خبر منه تعالى على المختار، والعبد يحكيه بالتلاوة مؤمناً به فيكون حامداً لمولاه، ويذكره في غير التلاوة إنشاءٌ للحمد وتذكراً له، ويجوز أن يكون الحمد هنا إنشاء منه تعالى؛ وإن إنشاء الحمد بالجملة الخبرية جمع بين الخبر والإنشاء، أثنى سبحانه على نفسه بما علم به عباده الثناء عليه، فأثبت أن كل ثناء حسن ثابت له بالإستحقاق، وبما هو متصف به من الخلق والإيجاد والإعداد والإمداد، فذاته تعالى متصفة بجميع صفات الكمال وجوباً فالكمال الأعلى داخل في مفهوم حقيقتها أو لازم بين من لوازمه.

وقد وصف تعالى نفسه في مقام هذا الحمد بصفتين من صفاته الفعلية التي هي من موجبات الحمد له وهما خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.

أما خلق السماوات والأرض فمعناه إيجاد هذه العوالم العلوية التي نرى كثيراً منها فوقنا، وهذا العالم الذي نعيش فيه إيجاداً مرتباً منظماً، وقد تقدم القول في معنى الخلق لغة وشرعاً.

وأما جعل الظلمات والنور فهو في الحسيات بمعنى إيجادهما لأن هذا هو معنى الجعل المتعدي إلى مفعول واحد وسيأتي بيان معناه في المعنويات. قال الزمخشري في الكشاف جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله: { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله:وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف: 19].

والفرق بين الخلق والجعل إن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8