الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

قد كانت خاتمة ما وصى الله تعالى به هذه الأمة على لسان خاتم رسله آنفاً الأمر باتباع صراطه المستقيم والنهي عن اتباع غيره من السبل وقد ذكر بعد تلك الوصايا شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه بما علم به أن هذه أكمل لأن الأشياء إنما تكمل بخواتيمها وقفى على ذلك بالمقارنة بين أهل الكتاب والعرب أئمة أهل القرآن مذكراً إياهم باعتقادهم أنهم أقوى من أهل الكتاب استعداداً للهداية محتجاً عليهم بذلك عسى أن يثوب المستعدون للإيمان إلى رشادهم، ويفكر المعاندون في عاقبة عنادهم، وتلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر في آخر الزمان لكل من الأمم والأفراد، ولما تمت بذلك الحجة، ووضحت المحجة.

ذكر تعالى جده وجل ثناؤه هذه الأمة بما هي عرضة له بحسب سنن الإجتماع من إضاعة الدين بعد الإهتداء به بمثل ما أضاعه به من قبلهم وهو الإختلاف والتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلهم أحزاباً وشيعاً تتعصب كل منها لمذهب من المذاهب أو إمام فيضيع العلم وتنفصم عروة الوحدة للأمة الواحدة بعد أخوة الإيمان فتصبح أمماً متعادية ليس لها مرجع متفق عليه يجمع كلمتها فيحل بها ما حل بالأمم التي تفرقت قبلها، فقال عز وجل:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } قرأ الجمهور فرقوا دينهم من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد وجعله فرقاً وأبعاضاً. وقرأ حمزة والكسائي (فارقوا) من المفارقة للشيء وهي تركه والإنفصال منه، وهذه القراءة رويت عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته لأنه واحد لا يتجزأ.

فمن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل، والكفر بالبعض كالكفر بالجميع مفارقة للدين الذي لا يتجزأأَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة: 85] الآية.

ومثله الإيمان ببعض الرسل دون بعض، على أن المفارقة قد تكون للجماعة التي تقيم الدين لا لأصل الدين بجحوده والكفر به أو تأويله وترك هدايته. وسيأتي تفصيل القول في ذلك.

ذهب بعض مفسري السلف إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى فجعلوه أديانا مختلفة، وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة يتعادون ويتقاتلون فيه. وذهب آخرون إلى أنها في أهل البدع والفرق الإسلامية التي مزقت وحدة الإسلام بما استحدثت من النحل والمذاهب.

وكل من القولين حق، والصواب هو الجمع بينهما فإن الله تعالى بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة وأبطل شبهات الشرك ذكر أهل الكتاب وشرعهم. وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم وقد فصل هذا بقوله بعد الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق من سورة آل عمران:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد