الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } * { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } * { قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

هذه الآيات الثلاث مؤيدة للثلاث التي قبلها ومتممة لبيان المراد منها. أما تلك فبيان لحجة الله تعالى على المكلفين الذين بلغتهم دعوة الرسل فجحدوا بها وتقرير لهم يشهدون به على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن عقابهم هنالك حق وعدل - وبيان لسنته تعالى في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه بل بظلمها لأنفسها ظلماً لا عذر لها فيه - وبيان أن لكل من المكلفين جماعات وأفراداً درجات في الجزاء على أعمالهم - وحاصل الثلاث أن الأعمال النفسية والبدنية هي التي يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة.

وأما هذه الآيات التي قفى بها عليها فهي أيضاً في بيان عقاب الأمم في الدنيا بالهلاك الصوري والمعنوي وتحقيق وعيد الآخرة وكون كل منهما مرتباً على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ولا لحاجة له تعالى فيه لأنه غني عن العالمين بل هو مع كونه مقتضى الحق والعدل، مقرون بالرحمة والفضل، وها هو تفصيله بالقول الفصل.

ختم الآيات السابقة بقوله تعالى:وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 132] أي بل هو محيط بها ومجاز عليها وبدأ هذه بقوله: { وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ } لإثبات غناه تعالى عن تلك الأعمال والعاملين لها وعن كل شيء ورحمته في التكليف والجزاء وغيرهما. والجملة تفيد الحصر أو القصر كما قالوا.

أي وربك غير الغافل عن تلك الأعمال هو الغني الكامل الغنى وذو الرحمة الكاملة الشاملة التي وسعت كل شيء أما الأول فبيانه أن الغنى هو عدم الحاجة وإنما يكون على إطلاقه وكمال معناه بل أصل معناه لواجب الوجود والصفات الكمالية بذاته وهو الرب الخالق، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه في وجوده وبقائه ومحتاج بالتبع لذلك إلى الأسباب التي جعلها تعالى قوام وجوده. وإنما يقال في الخلق هذا غني إذا كان واجداً لأهم هذه الأسباب، فغنى الناس مثلاً إضافي عرفي لا حقيقي مطلق فإن ذا المال الكثير الذي يسمى غنياً كثير الحاجات فقير إلى كثير من الناس كالزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم، دع حاجته إلى خالقه وخالق كل شيء التي قال تعالى فيها:يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [فاطر: 15] وقد " كان الله تعالى ولا شيء معه " غنياً عن كل شيء " وهو الآن على ما عليه كان " غير محتاج إلى عمل الطائعين لأنه لا ينفعه بل ينفعهم ولا إلى دفع عمل العاصين لأنه لا يضره بل يضرهم، فالتكليف والجزاء عليه رحمة منه سبحانه بهم يكمل به نقص المستعد للكمال.

روى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل (مما يسمى بالحديث القدسي) أنه قال:


السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8