الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } * { ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ } * { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

{ وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } المعنى العام لمادة الولاء هو أن يكون بين الشيئين أو الأشياء نوع من الاتصال في الحصول أو العمل بأن يفصل بينهما أو بينها ما شأنه أن يفصل من حدث أو جثة أو زمن، وولي الرجل العمل أو الأمر قام به بنفسه ومنه ولاية الأحكام " بكسر الواو " وصاحبها وال وولاية القرابة وولاية النصرة " وكلاهما بفتحها " وصاحبهما ولي.

ومنه الموالاة في الوضوء وولى وجهه الكعبة - توجه إليهافَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 144] وولاه الشيء أو العمل أو القضاء - جعله إليه ليقوم به بنفسه فتولاه، وتولى زيد عمراً نصره وكذلك القوملاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [الممتحنة: 13] -.

وأما تولية الله الناس بعضهم بعضاً فهو جعلهم أولياء وأنصاراً بعضهم لبعض إما بمقتضى أمره في شرعه ومقتضى سننه وقدره معاً وإما بمقتضى الثاني فقط - فالأول ولاية المؤمنين بعضهم بعضاً في الحق والخير والمعروف فقد أمرهم بذلك في شرعه ونهاهم عن ضده وهو مقتضى الإيمان الصادق وأثره الذي لا ينفك عنه بحسب تقدير الله الذي مضت به سنته في خلقه والثاني ولاية الكفار المجرمين والمنافقين بعضهم بعضاً فهو أثر مترتب على الاعتقاد والأخلاق والمنفعة المشتركة بينهم بحسب تقديره وسننه في نظام الحياة البشرية وهو لم يأمرهم بشيء مما يتناصرون به في الباطل والشر والمنكر بل نهاهم عنه، وقد بينا مراراً أن هذا النظام المعبر عنه بالقدر والتقدير الشامل للحق والباطل والخير والشر هو عبارة عن نفي ما زعمت القدرية من أن الله تعالى يخلق كل ما وقع في الكون خلقاً آنفاً أي مبتدأ منه غير جار على نظام تكون فيه المسببات على قدر الأسباب.

والجبر يستلزم نفي القدر أيضاً، فتولية الله الناس بعضهم لبعض ليس خلقاً مبتدأ من الله، ولا واقعاً من الناس بالإجبار والاضطرار، ولا بالاستقلال المنافي للخضوع للسنن والأقدار وإنما جرت سنة الله تعالى في البشر بأن يكون لكل عمل من الأعمال النفسية والبدنية التي تصدر منهم تأثير في أنفسهم يصير بالتكرار عادة فخلقا وملكة وأن الأفراد والجماعات يميل كل منهم إلى من على شاكلته في ذلك، ويتولى بعضهم بعضاً في التعاون والتناصر فيما يشتركون فيه على من يخالفهم فيه وقد جهل الجبرية والقدرية النفاة جميعاً حقيقة القدر وصار كل منهما يحمل الآيات على ما ذهب إليه كأنها مختلفة متعارضة وهي مخالفة لكل منهما ولا اختلاف ولا تعارض فيها.

فمعنى الآية على ما تقدم. ومثل ذلك الذي تقدم - أي في الآية التي قبلها - من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لما بينهم من التناسب والمشاكلة، نولي بعض الظالمين لأنفسهم وللناس بعضاً بسبب ما كانوا يكسبونه باختيارهم من أعمال الظلم الجامعة بينهم، أي يقع ذلك منهم بسنتنا وقدرنا، الذي قام به النظام العام في خلقنا، فليس خلقاً مبتدأ كما تزعم القدرية، ولا أفعال اضطرارية كما تزعم الجبرية، ويؤيد هذا روايات في التفسير المأثور.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد