الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } * { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

بين الله تعالى في السياق الذي قبل هذا أن الذين اقترحوا على رسوله الآيات الكونية وأقسموا بأنهم يؤمنون بها إذا جاءتهم كاذبون في دعواهم وأيمانهم كما ثبت فيما مضت به سنة الله في أمثالهم من أعداء الرسول المعاندين وهم شياطين الإنس والجن الذين يغرون الجاهلين بزخرف أقوالهم فيصرفونهم بها عن الحق ويزينون لهم الباطل فتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضونه لموافقته لأهوائهم فيحملهم على اقتراف السيئات وارتكاب المنكرات.

ثم قفى عليه بهاتين الآيتين المبينتين لآية الله الكبرى التي هي أقوى دلالة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ومما لم يقترحوا من الآيات الكونية، وهي القرآن الحكيم، وكون منزلها هو الذي يجب الرجوع إليه في الحكم في أمر الرسالة وغيره واتباع حكمه فيها دون شياطين الإنس والجن المبطلين المضلين فقال آمراً لرسوله أن يقول لهم:

{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } الحكم (بفتحتين كالجبل) هو من يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، أي أأطلب حكماً غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم في هذا الأمر وغيره { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَابَ مُفَصَّلاً } أي والحال إنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً فيه كل ما يصح به الحكم - فإنزاله مشتملاً على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها على لسان رجل منكم أي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على إنه من عند الله تعالى لا من عنده هو كما قال بأمر الله في آية أخرى:فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ } [يونس: 16] جاوز الأربعين من السنين ولم يصدر عني فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغتهأَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44] أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم؟

ثم إن ما فصل فيه من سنن الله تعالى في طباع البشر وأخلاقهم وارتباط أعمالهم بما استقر في أنفسهم من الآراء والأفكار والأخلاق والعادات الموضح بقصص من قبلنا من الأمم برهان علمي على صحة ما حكم به في طلبكم الآية الكونية وزعمكم أنكم تؤمنون بها، وقد تقدم توجيهه في تفسير السياق الأخير في طلبها وفي أمثاله، كما تقدم بيان كون القرآن أدل على صحة الرسالة وصدق الرسول من جميع الآيات التي جاء بها الرسل عليهم السلام، وهو في مواضع من التفسير والمنار، ومن أقربها ما جاء في تفسير الآية 37 من هذه السورة (ج7).

{ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } أي والذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليكم من ربك بالحق. وبيان هذا من وجهين:

أحدهما: أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، فمن ألف كتاباً في علم الطب كان الأطباء أعلم الناس بكونه طبيباً، ومن ألف كتاباً في النحو كان النحاة أعلم الناس بكونه نحوياً، كذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله على أنبيائهم منه يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي وفي أعلى مراتب الكمال منه وأن أوسع البشر علماً لا يستطيع أن يأتي بمثله فكيف يستطيعه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قبله شيئاً

السابقالتالي
2 3 4