الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }

بعد أن بين الله تعالى لخاتم رسله سنته في شبهات الكفار المعاندين على الرسالة، وإصرارهم على الجحود والتكذيب بعد إعطائهم الآيات التي كانوا يقترحونها وعقابه تعالى إياهم على ذلك - بين له شأناً آخر من شؤون أولئك الكفار مع رسلهم وسنته تعالى في عقابهم عليه فقال: { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ظاهر كلام نقلة اللغة إن الهزء (بضمتين وبضم فسكون) والإستهزاء بمعنى السخرية، وأن أقوالهم هزئ به وإستهزأ به مرادف لقولهم سخر منه، ويفهم من كلام بعض المدققين إن الحرفين متقارباً المعنى ولكن بينهما فرقاً لا يمنع من إستعمال كل منها حيث يستعمل الآخر كثيراً قال الراغب: الهزؤ مزح في خفية (كذا ولعل صوابه في خفة) وقد يقال لما هو كالمزح، فما قصد به المزح قوله:ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } [المائدة: 58]وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً } [الجاثية: 9]وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } [الفرقان: 41].

والإستهزاء إرتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزؤ. كالإستجابة في كونها إرتياداً للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة.. وسخرت منه واستسخرته للهزؤ منه انتهى ملخصاً. وقال الزمخشري: الإستهزاء السخرية والإستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو النقل السريع، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف انتهى - والخلاصة أن الإستهزاء بالشيء الإستهانة به، الإستهزاء بالشخص إحتقاره وعدم الإهتمام بأمره، وكثيراً ما يصحب ذلك السخرية منه، وهي الضحك الناشئ عن الإستخفاف والإحتقار، فمن حاكى امرءاً في قوله أو عمله أو زيه أو غيرها محاكاة إحتقار فقد سخر منه، فالسخرية تستلزم الإستهزاء، وهي خاصة بالأشخاص دون الأشياء، قال تعالى:فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [المؤمنون: 110] وقال في نوح:وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } [هود: 38] الآية.

وحاق المكروه يحيق حيقاً، أحاط به فلم يكن له منه مخرج.

والمعنى: أن الله تعالى قد أخبر رسوله خبراً مؤكدا بصيغة القسم أن الكفار قد استهزءوا برسل كرام من قبله فتنكير " رسل " للتعظيم، وهو لا ينافي العموم في قوله:مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس: 30] فما يراه من إستهزاء طغاة قريش ليس بدعا منهم، بل جروا به على آثار أعداء الرسل قبلهم، وقد حاق بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل على إستهزائهم جزاء وفاقا، حتى كأنه هو الذي حاق بهم لأنه سببه وجاء على وفقه.

فالآية تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم سنن الله في الأمم مع رسلهم وتسلية له عن إيذاء قومه، وبشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من إدالة الدولة، وقد كان جزاء المستهزئين بمن قبله من الرسل عذاب الخزي بالإستئصال، ولكن الله كفاه المستهزئين به فأهلكهم، ولم يجعلهم سبباً لهلاك قومهم، وامتن عليه بذلك في سورة الحجر إذ قال:

السابقالتالي
2 3