الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }

الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من العلم والهداية، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه، وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر، وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام. قال تعالى: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } البصائر جمع بصيرة ولها معان منها عقيدة القلب والمعرفة الثابتة باليقين، أو اليقين في العلم بالشيء والعبرة والشاهد، أو الشهيد المثبت للأمر، والحجة أو الفطنة، أو القوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، وهذا يقابل البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، ومنه قول معاوية لبعض بني هاشم: إنكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، وقول الهاشمي له: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم. أي قلوبكم وعقولكم.

والمراد بالبصائر هنا الآيات الواردة في هذه السورة أو في هذا السياق الذي أوله { إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } أو هي وما في معناها من الآيات المثبتة لحقائق الدين أو القرآن بجملته، وربما يرجع هذا بتذكير الفعل " جاءكم " إذ لا بد له من نكتة في الكلام البليغ لأنه خلاف الأصل وإن كان جائزاً.

وأقوى النكت وقوع اللفظ المؤنث على معنى مذكر. والخطاب وارد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن جرير وغيره، فالمعنى قد جاءكم في هذه الآيات الجلية بصائر من الحجج العقلية والكونية، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية، التي يتوقف عليها نيل السعادة الأبدية، جاءكم ذلك من ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم ومشاعركم وسائر قواكم: ليربي بها أرواحكم، بأحسن مما ربى به أشباحكم.

{ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } أي فمن أبصر بها الحق والهدى، فآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، فلنفسه أبصر، ولسعادتها ما قدم من الخير وأخر، { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } أي ومن عمي عن الحق بإعراضه عنها، وعدم النظر والإستبصار بها فأصر على ضلاله، ثباتاً على عناده، أو تقليد آبائه وأجداده، فعليها جنى، وإياها أردى، ولعمى البصائر شر من عمى الأبصار، وأسوأ عاقبة في هذه الدار وفي تلك الدار.

وهذا كقوله تعالى:مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46] وقوله:لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] وقولهإِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7]، وقوله هنا: " فلها " بمعنى فعليها، ونكتته المشاكلة أو الإزدواج وقيل غير ذلك.

{ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يراقب أعمالكم ويحصيها عليكم ويحفظها ليجازيكم عليها، وإنما أنا بشير ونذير، والله هو الرقيب الحفيظ، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما عليَّ إلا البلاغ.

{ وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } أي ومثل ذلك التصريف والتفتن العلي الشأن، البعيد الشأو في فنون المعاني وأفنان البيان، الذي تراه في هذه السورة أو هذا السياق، نصرف الآيات في سائر القرآن لإثبات أصول الإيمان، والهداية لأحاسن الآداب والأعمال، فنحولها من نوع إلى نوع ومن حال إلى حال، مراعاة العقول والأفهام، ولإختلاف إستعداد الأفراد والأقوام.

السابقالتالي
2 3 4 5