الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } * { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

أرشدنا جل شأنه في الآية التي قبل هذه إلى بعض آيات علمه في خلقه وأمره، وأرشدنا في هذه إلى العلم بأن العليم بكل شيء، الذي ظهرت آيات علمه وحكمته في خلق السماوات والأرض.

كما ظهرت في جعل البيت الحرام قياماً للناس - لا يمكن أن يترك الناس سدى، كما إنه لم يخلقهم عبثاً، فلا يليق بحكمته وعدله أن يجعل الذين اجترحوا السيئات، كالذين آمنوا وعلموا الصالحات، ولا أن يسوي بين الطيب والخبيث كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلح والمفسد، والمظلوم والظالم، فلا بدّ إذاً من الجزاء بالحق ولا يملك الجزاء إلا من يقدر على العقاب الشديد، وعلى المغفرة والرحمة، لذلك قال:

{ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن دنس نفسه بالشرك والفسوق والعصيان { وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن زكى نفسه بالأعمال الصالحة مع التوحيد والإيمان، فلا يؤاخذه بما سلف قبل الإيمان، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة والإصلاح. ولا باللمم، إذا اجتنب كبائر الإثم والفواحش. بل يستر ذنبه ويمحوه، فيضمحل في إيمانه وعمله الصالح، كما يستر القذر القليل، ويضمحل بما يغمره من الماء الكثير، ويخصه فوق ذلك برحمة منه ورضوان.

فالآية متضمنة للترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، فهي وعيد لمن كفر وتولى عن العمل بكتاب الله، ووعد لمن آمن به وعمل الصالحات، وقد تقدم تفسير المغفرة والرحمة في كثير من الآيات. ولعل في تقديم ذكر العقاب وتأخير ذكر المغفرة والرحمة إشارة إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة فلا يدوم، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ثبت في الحديث الصحيح، ولذلك يغفر كثيراً من ظلم الناس لأنفسهم (ويعفو عن كثير) وأعاد اسم الجلالة في مقام الإضمار للدلالة على أن مغفرته ورحمته ثابتتان له بالأصالة.

{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } هذا بيان لوظيفة الرسول في إثر بيان كون الجزاء بيد الله العليم بكل شيء، وهي أن الرسول من حيث هو رسول الله ليس عليه إلا تبليغ رسالة من أرسله، فهو لا يعلم جميع ما يبديه المكلفون من الأعمال والأقوال وما يكتمونه منها فيكون أهلا لحسابهم وجزائهم على أعمالهم، وإنما يعلم ذلك الله وحده.

وفيه إبطال لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والرجاء فيها، والتماس الخلاص والنجاة من عذاب الآخرة بشفاعتها، فهو يقول بصيغة الحصر " ما على الرسول إلا البلاغ " والبيان لدين الله وشرعه، فبذلك تبرأ ذمته، ويكون من بلغهم هم المسؤلين عند الله تعالى؛ والله وحده هو الذي يعلم ما تبدون وما تكتمون من عقائدكم وأقوالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها، بحسب علمه المحيط بكل ذرة منها، فيكون جزاءه حقاً وعدلاً، ويزيد المحسنين كرماً منه وفضلاً.

السابقالتالي
2 3