الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }

بدأ الله تعالى هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك - ومنها حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم، وأحكام الطهارة والعدل، ولو في الأعداء والمبغضين ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من آيات الأحكام والوعود والعظات، بينا مناسبتها له في مواضعها. وهذه الآيات عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة، ويتلوها العود إلى محاجة أهل الكتاب كما علمت. فمجموع آيات السورة في هذين الموضوعين. وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة، وتجعل الآيات في أهل الكتاب متصلا بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن، من حيث هو مثاني تتلى دائماً للإهتداء بها، لا كتاباً فنياً ولا قانوناً يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.

على أن في نظمه وترتيب آيه من المناسبة بين المسائل المختلفة ما يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتناسقه، كما ترى في مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة، زائداً على ما علمت آنفاً من مناسبتها لمجموع ما تقدمها من أول السورة إلى هنا:

ذلك أنه تعالى ذكر إن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا، وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً، فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية، ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى، وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات طبعاً من اللحوم والأدهان والنساء، إِما دائماً كامتناع الرهبان من الزواج ألبتة، وأما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها؛ وقد أزال الله تعالى هذا الظن، وقطع طريق تلك الرغبة، بقوله عز من قائل:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكاً وتقرباً إليه تعالى. ولا تعتدوا فيها بتجاوز حد الإعتدال إلى الإسراف الضارّ بالجسد كالزيادة على الشبع والريّ، أو بالأخلاق والآداب كجعل التمتع بلذتها أكبر همكم، أو شاغلا لكم عن معالي الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم، وهذا معنى قوله:وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } [الأعراف: 31] ولا تعتدوها هي - أي الطيبات المحللة - بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة. فالإعتداء يشمل الأمرين: الإعتداء في الشيء نفسه، واعتداءه بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه، وقد حذف المفعول في الآية فلم يقل: فلا تعتدوا فيها - أو فلا تعتدوها - كما قال:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد