الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ }

ختم الله هذا السياق في محاجة أهل الكتاب وبيان شأنهم، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم، وكذا حالة المشركين - فقال:

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } العداوة: بغضاء يظهر أثرها في القول والعمل، والمودة: محبة يظهر أثرها في القول والعمل خلافاً للجمهور الذين فسروها بالمحبة مطلقاً. وفي كلمة " لتجدن " تأكيدان - لام القسم في أول الكلمة، ونون التوكيد في آخرها. وفي الخطاب بها وجهان - أحدهما: أنه للنبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما: أنه لكل من يوجه إليه الكلام، وفي " الناس " الذين نزل فيهم هذا التفصيل قولان - أحدهما: أنهم يهود الحجاز ومشركوا العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل، والثاني: أنه عامّ.

فأما صدقه على أهل العصر الأول فظاهر أتم الظهور، ولا سيما إذا جعلنا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أشد ما لاقى - بأبي هو وأمي - من العداوة والإيذاء قد كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومشركي العرب، ولا سيما مكة وما قرب منها، ولم ير من النصارى مثل تلك العداوة والإيذاء، بل رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة بحماية المهاجرين الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من مكة إلى الحبشة خوفاً عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ليفتنوهم عن دينهم، حتى قال أكثر أهل التفسير المأثور: إن الآية نزلت فيهم أولا وبالذات، ولا ينفي هذا القول كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وسيأتي ما روي في ذلك في آخر تفسير الآيات.

لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتب الدعوة الإسلامية إلى الملوك ورؤساء الشعوب، كان النصارى منهم أحسنهم ردّاً - فهرقل ملك الروم في الشام حاول إِقناع رعيته بقبول الإسلام فلما لم يقبلوا لجمودهم على التقليد، وعدم فقههم حقيقة الدين الجديد، اكتفى بالرد الحسن. والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه رداً، وإن لم يكن أكثر إلى الإسلام ميلا، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام، عرفت أهلهما مزية الإسلام، دخلوا في دين الله أفواجاً، وكان القبط أسرع له قبولاً.

وقد كان حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، وكان مما قاله له بعد أن أعطاه الكتاب: إِنه كان قبلك رجل يزعم إنه الرب الأعلىفَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } [النازعات: 25] فانتقم به ثم انتقم منه. فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد