الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } * { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } * { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } * { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

أقام الله تعالى البرهان من حال المسيح وأمه على بطلان كونه إلها، وبيّن ما يشاركان به أشرف البشر من المزية الخاصة، وما يشاركان به سائر البشر من صفاتهم العامة، وقفّى على ذلك بالتعجيب من بعد التفاوت ما بين قوة الآيات التي حجهم بها، وشدّة انصرافهم عنها، ثم لقن نبيّه حجة أخرى يوردها في سياق الإِنكار عليهم وتبكيتهم على عبادة ما لا فائدة في عبادته فقال:

{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى وأمثالهم الذين عبدوا غير الله: أتعبدون من دون الله - أي متجاوزين عبادة الله وحده - ما لا يملك لكم ضرّا تخشون إن يعاقبكم به إذا تركتم عبادته، وترجون أن يدفعه عنكم إذا أنتم عبدتموه، ولا يملك لكم نفعا ترجون إن يجزيكم به إذا عبدتموه، وتخافون أن يمنعه عنكم إذا كفرتموه؟ { وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي والحال إن الله تعالى هو السميع لأدعيتكم وسائر أقوالكم، العليم بحاجاتكم وسائر أحوالكم، فلا ينبغي لكم إن تدعوا غيره، ولا أن تعبدوا سواه.

ولما كان قول النصارى في المسيح من أشد الغلو في الدين، بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب. وكان إيذاء اليهود له وسعيهم لقتله، من الغلو في الجمود على تقاليد الدين الصورية، واتباع الهوى فيه، وكان هذا الغلو هو الحامل لهم على قتل زكريا ويحيى وشعيا قال تعالى:

{ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } الغلوّ: الإفراط وتجاوز الحد في الأمر، فإذا كان في الدين، فهو تجاوز حد الوحي المنزل إلى ما تهوى الأنفس، كجعل الأنبياء والصالحين أربابا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية، واتخاذهم لأجل ذلك آلهة يعبدون فيدعون من دون الله تعالى أو مع الله تعالى، سواء أطلق عليهم لقب الرب والإِله كما فعلت النصارى أم لا، وكشرع عبادات لم يأذن بها الله، وتحريم ما لم يحرّم الله، كالطيّبات التي حرّمها القسوس والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم. مبالغة في التنّسك سواء كان ذلك لوجه الله، أم كان رياء وسمعة.

نهى الله تعالى أهل الكتاب الذين كانوا في عصر نزول القرآن عن هذا الغلو الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالتهم، فذكّرهم بأن الذين كانوا قبلكم، قد ضلّوا باتباع أهوائهم في الدين، وعدم اتباعهم فيه سنّة الرسل والنبيين، والصالحين من الحواريين، فكل أولئك كانوا موحّدين ولم يكونوا مفرطين ولا مفرّطين. وإنما كانوا للشرك والغلو في الدين منكرين، فهذا التثليث وهذه الطقوس الكنيسية الشديدة المستحدثة من بعدهم.

السابقالتالي
2 3 4