الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } * { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } * { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }

بدأ الله تعالى السياق الطويل في أهل الكتاب بأخذ الميثاق على بني إسرائيل وبعث النقباء فيهم، ثم أعاد التذكير به في أواخره هنا، فذكره وذكر معه إرسال الرسل إليهم وما كان من معاملتهم لهم فقال:

{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } تقدّم إن الميثاق هو العهد الموثّق المؤكد وإن الله أخذه عليهم في التوراة فراجع الآية 13 (ج 6 تفسير).

وقد نقضوا الميثاق كما تبيّن في أوائل هذه السورة وأواخر ما قبلها. وأما معاملتهم للرسل، فقد بيّن الله تعالى إجماله بهذه القاعدة الكلية، وهي إنهم كانوا كلّما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم - وإن كان مقترناً بأشياء يوافق فيها الحق أهواءهم - عاملوه بأحد أمرين: التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان، أو القتل وسفك الدم. والظاهر إن جملة { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } استئناف بياني، لا صفة لرسل كما قال الجمهور. وجعل الرسل فريقين في المعاملة بعد ذكر لفظ الرسول مفردا في اللفظ، جائز؛ لأن وقوعه مفرداً إنما هو بعد " كلما " المفيدة للتكرار والتعدد، واستحسن بعضهم إن يكون جواب " كلما " محذوفاً تقديره: استكبروا وأعرضوا، وجعل التفصيل بعد ذلك استئنافاً بيانياً مفّصلاً لما ترتب على الاستكبار وعدم قبول هداية الرسل. وهو حسن لموافقته لقوله تعالى في آية أخرى:أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [البقرة: 87] وتقدم تفسيرها.

والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه - كالتكذيب - وقع في الماضي، نكتته تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة كأنّه واقع في الحال، للمبالغة في النعي عليهم والتوبيخ لهم، فقد أفادت الآية إنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أخشن مركب وأشده تقحّما بهم في الضلال، حتّى لم يعد يؤثّر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأخيار.

{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي وظنوا ظنا تمكّن من نفوسهم، فكان كالعلم في قوّته إنه لا توجد ولا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد. والفتنة: الاختبار بالشدائد، كتسلط الأمم القويّة عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد، وقيل: المراد بها القحط والجوائح. وليس بظاهر هنا. وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا، هو ما جاء مفصّلا في أوائل سورة الإسراء - التي تسمّى سورة بني إسرائيل أيضاً - من قوله تعالى:وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } [الإسراء: 4] - إلى قوله -عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [الإسراء: 8] الآية، فالفساد مرتين هناك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى:

{ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } أي فعموا عن آيات الله في كتبه الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة، وعن سننه في خلقه المصدقة لها، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل، وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه، وخرج عن هداية دينه، فاتبع هواه، وظلم نفسه والناس، فلما عموا وصموا وانهمكوا في الظلم والفساد، سلّط الله تعالى عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا الأموال، وسبوا الأمة وسلبوها الملك والاستقلال، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم، ثم عموا وصموا مرّة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض، وقتل الأنبياء بغير حق، فسلّط الله تعالى عليهم الفرس ثم الروم (الرومانيين) فأزالوا ملكهم واستقلالهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6