الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ } * { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }

لما أسرفت يهود المدينة وما حولها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فضّلهم على مشركي قومه، وأقرّهم على دينهم وما في أيديهم، بيّن الله تعالى له مخازيهم التي يشهد بها تاريخهم وكتب دينهم، وما كان من تأثيرها في أخلاق المعاصرين له وأعمالهم. ثم عطف على ما تقدم من ذلك هنا قولا فظيعا قاله بعضهم يدل على الجرأة على الله تعالى فيهم، الذي هو أثر ترك التناهي عن المنكر فيما بينهم، فقال:

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } هذا القول الفظيع من شواهد قولهم الإثم الذي أثبته فيما قبل هذه الآية. وقد عزي إليهم - وهو قول واحد أو آحاد منهم - لأنه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار المنكر - كما قلنا آنفاً - والمقر للمنكر شريك الفاعل له. وهذا هو وجه وصل هذه الآية بما قبلها.

روى ابن إسحاق والطبراني في الكبير، وابن مردويه عن ابن عباس: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق. فأنزل الله { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ } الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قينقاع. وروى ابن جرير مثله عن عكرمة. وروي عن مجاهد إنهم قالوا: لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره - أو حتى إن يده إلى نحره.

فعلى هذا يكون مرادهم أنه ضيّق عليهم الرزق. كأنهم اعتذروا بهذا عن إنفاق كان يطلب منهم، أو في حال جدب أصابهم. قيل: كانوا أغنى الناس فضاق عليهم الرزق بعد مقاومتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وروي عن السدي في قولهم ومرادهم: قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا. وروي عن ابن عباس في معنى عبارتهم أنه قال: ليس يعنون بذلك أن يدّ الله موثقة، ولكنّهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فجعل العبارة ابن عباس من باب الكناية لا من باب الحقيقة.

وقد جعل بعض أهل الجدل الآية من المشكلات؛ لأن يهود عصره ينكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنه يخالف عقائدهم ومقتضى دينهم. ومما قالوه في حل الإشكال: إنهم قالوا ذلك على سبيل الإِلزام، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى:مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ } [البقرة: 245] قالوا: من احتاج إلى القرض كان فقيراً عاجزاً مغلول اليدين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخرص في بيان مرادهم منه، وما هذا إلاّ غفلة عن جرأة أمثالهم في كل عصر، على مثل هذا القول البعيد عن الأدب، بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممن ليس لهم من الدين إلاّ العصبية الجنسية، والتقاليد القشرية، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9