الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } * { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أنه أخذ الميثاق على أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل، كما أخذه على هذه الأمة الآن، وأنهم نقضوا ميثاقه، وأضاعوا حظّاً عظيما مما أوحاه تعالى إليهم، ولم يقيموا ما حفظوا منه. وهذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم التي هي من معجزات القرآن الكثيرة. ثم ناداهم بعد ذلك ووجّه إليهم الخطاب في إقامة الحجّة عليهم بقوله عز وجل:

{ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } قيل إنّ هذه الآية نزلت في قصة إخفاء اليهود حكم رجم الزاني حين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وستأتي القصة في هذه السورة. والصواب أن الآية على إطلاقها، فكان رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم قد بيّن لأهل الكتاب كثيراً من الأحكام والمسائل التي كانوا يخفونها مما أنزل الله عليهم، منها حكم رجم الزاني، هو مما حفظوه من أحكام التوراة (كما تراه في 22: 20 - 24 من سفر التثنية) ولم يلتزموا العمل به، وأنكروه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم على عالمهم ابن صوريا وناشده الله حتّى اعترف به. فهذا مما كانوا يخفونه عند وجوب العمل به أو الفتوى. وكذلك أخفوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به وحرّفوها بالحمل على معان أخرى. اليهود والنصارى في هذا سواء.

وهذا النوع غير ما أضاعوه من كتبهم ونسوه البتة، كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من خبر الحساب والجزاء في الآخرة. وما أظهره لهم الرسول مما كانوا يخفونه عنه وعن المسلمين كانت الحجة عليهم فيه أقوى؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يطّلع على شيء من كتبهم، ولهذا آمن من آمن من علماء اليهود المنصفين، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم.

{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } مما كنتم تخفونه فلا يفضحكم ببيانه. وهذا النص حجّة عليهم أيضاً؛ لأنهم يعلمون إنهم يخفون عن المسلمين وعن عامّتهم كثيراً من المسائل لئلا يكون حجّة عليهم إذ هم لا يعملون به، كدأب علماء السوء في كل أمة: يكتمون من العلم ما يكون حجّة عليهم، كاشفاً عن سوء حالهم، أو يحرّفونه تحريفاً معنويا بحمله على غير معناه المراد.

{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال: أحدها إنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثانيها أنه الإسلام، ثالثها إنه القرآن. ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورا، هو إنها للبصيرة كالنور للبصر، فلولا النور لما أدرك البصر شيئاً من المبصرات، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام، لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله، وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه، وعبث رؤساء الدين بالبعض الآخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر، ولظلّوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون.

السابقالتالي
2 3