الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } * { وَإِذاً لأَتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً } * { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }

الكلام متصل بما سبق والسياق لم ينته والمروي عن ابن عباس ومجاهد أن قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ } عائد للمنافقين الذين سبق القول فيهم ومن كان مثلهم فله حكمهم، إذ الأحكام ليست منوطة بذوات المكلفين وشخوصهم بل بصفاتهم وأعمالهم، أي لو أمرناهم بقتل أنفسهم أي بتعريضها للقتل المحقق أو المظنون ظناً راجحاً وقيل قتلها هو الانتحار كما قيل مثل هذا في أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم توبة إلى ربهم من عبادة العجل أو قلنا لهم أخرجوا من دياركم أي أوطانكم وهاجروا إلى بلاد أخرى { مَّا فَعَلُوهُ } أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن { إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن عامر " قليلاً " بالنصب قالوا وكذا هو في مصاحف أهل الشام ومصحف أنس بن مالك. وهما لغتان للعرب وإعرابهما ظاهر.

بين الله تعالى لنا إن المؤمن الصادق هو من يطيع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره والسهل والشاق، ولو قتل النفس والخروج من الدار، وهما متقاربان لأن الجسم دار الروح والوطن دار الجسم، وأن المنافق هو من يعبد الله على حرف واحد وهو ما يوافق هواه وغرضه فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وأنه قلما يوجد في أولئك المنافقين من يصبر على نار الفتنة رياء وتقية فيطيع فيما يكتب عليه ولو كان التعرض للقتل، والجلاء عن الوطن والأهل.

وقيل إن الكلام في جملة المكلفين من الناس والمعنى أن الإنسان خلق ضعيفاً كما تقدم في آية (28) من هذه السورة فلو كتبنا عليهم ما يشق احتماله كقتل الأنفس والخروج من الوطن لعصى الكثير منهم ولم يطع إلا القليل وهم أصحاب العزائم القوية الذين يؤثرون رضوان الله على حظوظهم وشهواتهم، ولكننا لم نكتب عليها ذلك كما كتبناه على بني إسرائيل من قبلهم بل أرسلنا خاتم رسلنا بالحنيفية السمحة، التي تجمع لهم بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فلا عذر لهم بالضعف البشري أن عصوا الرسول، واتبعوا الطاغوت، وإنما ظلموا بذلك أنفسهم.

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } من الأوامر والنواهي المقرونة بحكمها وبيان فائدتها، والوعد والوعيد لمن عمل بها ومن صد عنها، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } في حفظ مصالحهم، واعتزاز أنفسهم بارتقاء أمتهم، وفي عاقبة أمرهم وآخرتهم، { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لهم في أمر دينهم.

التثبيت التقوية بجعل الشيء ثابتاً راسخاً، وإنما كان العمل وإتيان الأمور الموعوظ بها في الدين يزيد العامل قوة وثباتاً لأن الأعمال هي التي يكون بها العلم الإجمالي المبهم تفصيلياً جلياً، وهي التي تطبع الأخلاق والملكات في نفس العامل، وتبدد المخاوف والأوهام من نفسه.

السابقالتالي
2