الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً }

الأستاذ الإمام: قال تعالى في الآية السابقة { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } وتوعد من صد عنه بسعير جهنم ثم فصل هذا الوعيد بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } ونقلوا عن سيبويه أن { سَوْفَ } تأتي للتهديد وتنوب عنها السين ويستشهدون بهذه الآية ـ أي على سوف وبما قبلها على السين - ولكن ورد دخول السين على الفعل في مقام الوعد في الآية الآتية: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } والصواب أن السين وسوف على معناهما المشهور في إفادة التنفيس والتأخير واشتق لفظ التسويف بمعنى التأخير من سوف، ولكن بعضهم استشكل التسويف هنا ولو نظروا في مثل هذا الوعيد لرأوا أن حصوله يكون متأخراً جداً عن وقت نزول الآية به، على أن للتراخي والبعد معنى آخر بحسب اعتبار المقام في الخطاب فإذا نظر إلى حال المغرورين بما هم فيه من قوة وعزة، الذين صرفهم غرورهم وطغيانهم بعزتهم عن النظر فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى فصدوا عنه استغناء بما هم فيه يراهم بهذا الغرور بعداء جداً عن تصور الوعيد والتفكير فيه فيكون هذا التسويف مرعياً فيه حالهم ليتفكروا في مستقبل أمرهم.

أقول وقد تركت هنا في مذكرتي التي كتبتها في درسه بياضاً بقدر ثلاثة أسطر بعد قوله تصور الوعيد والتفكير فيه ولا أذكر ماذا كنت أريد أن أكتب فيها ولا يظهر لي الآن وجه استشكال التأخير، والوعيد إنما هو بعذاب الآخرة والعرب تستعمل التسويف فيما هو أقرب منه.

وقد ابتدأ الآية بذكر الذين كفروا ليعلم أن هذا الوعيد ليس خاصاً بأولئك الكفار من اليهود، والمراد بآيات الله هنا ما يدل على حقية دينه مطلقاً ويدخل فيها القرآن دخولاً أولياً لأنه أدل الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، ونصليهم ناراً معناه نجعلهم يصلونها أي يدخلونها ويعذبون بها (راجع بحث الصلي والإصلاء في ج 4).

{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } قال الأستاذ الإمام نضج الجلود هو نحو نضج الثمار والطعام وهو عبارة عن فقد التماسك الحيوي والبعد عن الحياة وإنما تتبدل لأن النضج يذهب القوة الحيوية التي بها الإحساس فإذا بقيت ناضجة يقل الإحساس بما يمسها أو يزول لذلك تتبدل بها جلود حية غيرها { لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } لأن الذوق والإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد، ومن هنا قال بعض المفسرين أن المراد بتبديل الجلود دوام العذاب فالكلام تمثيل أو كناية عن دوام الإحساس بالعذاب فإنه أراد أن يزيل وهماً ربما يعرض للناس بالقياس على ما يعهدون في أنفسهم من أن الذي يتعود الألم يقل شعوره به ويصير عادياً عنده كما نرى من حال الرجل تعمل له عملية جراحية وتتكرر فإنه في المرة الأولى يتألم ألماً شديداً ثم لا يزال التألم يخف بالتدريج حتى نراه لا يبالي به، وهكذا نشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمرها.

السابقالتالي
2 3 4