الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } * { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً }

مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح.

قال الأستاذ الإمام: قوله تعالى: { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } إلخ استئناف بياني كأن قائلاً يقول ما هي حكمة هذه الأحكام وفائدتها لنا وهل كلف الله تعالى أمم الأنبياء السابقين إياها أو مثلها فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة وهل كان ما أمرنا به ونهانا عنه تشديداً علينا أم تخفيفاً عنا؟؟ فجاءت الآيات مبينة أجوبة هذه الأسئلة التي من شأنها أن تخطر بالبال بعد العلم بتلك الأحكام. وقوله: { لِيُبَيِّنَ } معناه أن يبين فاللام ناصبة بمعنى أن المصدرية كما قال الكوفيون ومثلهيُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ } [الصف: 8].

أقول ويجعل البصريون متعلق الإرادة محذوفاً واللام للتعليل أو العاقبة أي يريد الله ذلك التحريم والتحليل لأجل أن يبين لكم به ما فيه مصلحتكم وقوام فطرتكم ولهم في هذه اللام أقوال أخرى.

وقد حذف مفعول ليبين لتتوجه العقول السليمة، إلى استخراجه من ثنايا الفطرة القويمة، وقد أشار الأستاذ الإمام إلى بعض الحكم في تحريم تلك المحرمات عقب سردها ورأينا أن نؤخر ذكرها فنجعله في هذا الموضع ليكون بياناً لما وجهت إليه النفوس هنا بحذف المفعول، وإنما كتبنا عنه في مذكرتنا بيان عاطفة الأب السائقة إلى تربية ولده وهي تذكر بغيرها من مراتب صلات القرابة وإننا نذكر ما يتعلق بهذا المقام بالإيجاز، ومحل الإسهاب فيه كتب الأخلاق.

إن الله تعالى جعل بين الناس ضروباً من الصلة يتراحمون بها ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة، فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الأولاد والوالدين من العاطفة والأريحية، فمن اكتنه السر في عطف الأب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه إلى العناية بتربيته إلى أن يكون رجلاً مثله، فهو ينظر إليه كنظره إلى بعض أعضائه، ويعتمد عليه في مستقبل أيامه، ويجد في نفس الولد شعوراً بأن أباه كان منشأ وجوده وممد حياته، وقوام تأديبه وعنوان شرفه، وبهذا الشعور يحترم الابن أباه، وبتلك الرحمة والأريحية يعطف الأب على ابنه ويساعده.

هذا ما قاله الأستاذ ولا يخفى على إنسان أن عاطفة الأم الوالدية أقوى من عاطفة الأب، ورحمتها أشد من رحمته، وحنانها أرسخ من حنانه، لأنها أرق قلباً وأدق شعوراً، وإن الولد يتكوَّن جنيناً من دمها الذي هو قوام حياتها، ثم يكون طفلاً يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصة من ثديها، عاطفة جديدة يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحداً في الدنيا قبل أمه، ثم إنه يحب أباه ولكن دون حبه لأمه، وإن كان يحترمه أشد مما يحترمها، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حسب استمتاع الشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة؟ بلى، ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية ويليه تحريم البنات، ولولا ما عهد في الإنسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والإفساد فيها لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات، لأن فطرته تشعر بأن النزوع إلى ذلك من قبيل المستحيلات.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8