الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }

لما قامت الحجة في الآيات الأخيرة على النصارى، وفيما قبلها على اليهود وهم أهل الكتاب، والمعرفة بالنبوّات والشرائع، وقامت الحجة قبل ذلك على المنافقين في أثناء السورة، كما قامت على المشركين فيها وفي سور كثيرة، وظهرت نبوّة النبي الخاتم ظهور الشمس ليس دونها سحاب - لأن سحب الشبهات قد انقشعت بالحجج المشار إليها كل الانقشاع - نادى الله تعالى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه، والاهتداء بالنور الذي جاء به، فقال:

{ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي قد جاءكم من قبل ربكم، بفضله وعنايته بتربيتكم وتزكية نفوسكم، برهان عظيم أو جلّي يبيّن لكم حقيقة الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وجميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، مؤيّداً لكم ذلك بالدلائل والبيّنات والحكم، وهو محمد النبي العربي الأمي، الذي يظهر لكل من عرف سيرته في نشأته وتربيته، وحاله في بعثته وسنته، إنه هو نفسه برهان على حقية ما جاء به: أمي لم يتعلم شيئاً من الكتب قط، ولم يعن في طفوليته ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين، كالشعر والنسب وأيام العرب، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية، وصفات الربوبية، وما يجب لتلك الذات العلية، وما تتزكى به النفس البشرية، وتصلح به الحياة الإجتماعية، ويكشف ما اشتبه على أهل الكتاب من أصول دينهم، وما اضطرب فيه نظّار الفلسفة العليا من مسائل فلسفتهم، ويرفع قواعد الإيمان على أساس الحجج الكونية العقلية، ويسلك هذا المسلك في بيان الشرائع العملية، والحكمة الأدبية، والسياسة الحربية والاجتماعية، كل ذلك كان على طريق الحجة والبرهان، فلا غرو أن يسمى هو نفسه برهانا.

وهو برهان بسيرته العملية، كما إنه برهان في دعوته العلمية الشرعية، فقد نشأ يتيما لم يعن بتربيته عالم ولا حكيم ولا سياسي، بل ترك كما كان ولدان المشركين يتركون وشأنهم، وكان في سن التعليم وتكوّن الأخلاق والملكات يرعى الغنم نهارا وينام من أول الليل، فلا يحضر سمّار قومه (مواضع السمر في الليل) ولا معاهد لهوهم، واتجر قليلاً في شبابه، مع قومه من أبناء الجاهلية وأترابه، فهو لم يصادف من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته، ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، ولكنه قام بهذه التربية أكمل قيام، وما زال يعجز عن مثل ما قام به من يستعدون له بالعلوم والأعمال، فكان بهذا برهانا على عناية الله به، وتأييده إياه بوحيه وتوفيقه، وذلك قوله عز وجل:

{ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } أي وأنزلنا إليكم أيها الناس بما أوحينا إليه، كتابا من لدنا هو كالنور بيّن في نفسه مبيّن لكل ما أنزل لبيانه، تنجلي لكم الحقائق ببلاغته وأساليب بيانه، بحيث لا يشتبه فيها من تدبّره وعقل معانيه، بل تثبت في عقله، وتؤثر في قلبه، وتكون هي الحاكمة على نفسه، والمصلحة له في عمله.

السابقالتالي
2 3 4