الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } * { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }

هذه الآيات نزلت في محاجّة النصارى خاصة، بعد محاجّة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وقد غلت اليهود في تحقير عيسى وإهانته والكفر به، ففرّطوا كل التفريط، فغلت النصارى في تعظيمه وتقديسه، فأفرطوا كل الإفراط، فلما دحض تعالى شبهات أولئك، قفّى بدحض شبهات هؤلاء، فقال عز من قائل: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } فتتجاوزوا الحدود التي حدّها الله لكم، فإن الزيادة في الدين كالنقص منه، كلاهما مخرج له عن وضعه { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي الثابت المتحقق في نفسه، إما بنص ديني متواتر، وإما ببرهان عقلي قاطع، وليس لكم على مزاعمكم في المسيح شيء منهما { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ } إلى بني إسرائيل، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً، وإن يرجعوا عن الإيمان بالجبت والطاغوت، وعن اتباع الهوى وعبادة المال، وإيثار شهوات الأرض على ملكوت السماء، وزهدهم في الحياة الدنيا، وحثّهم على حق التقوى، وبشرّهم بالنبي الخاتم الذي يبيّن لهم كل شيء، ويقيمهم على صراط الاعتدال، ويهديهم إلى الجمع بين حقوق الأرواح وحقوق الأجساد { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي وهو تحقيق كلمته التي ألقاها إلى أمّه مريم ومصداقها، والمراد كلمة التكوين أو البشارة، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام بشّرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاماً زكيّاً، فاستنكرت أن يكون لها ولد وهي عذراء لم تتزوج، فقال لها:كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47] فكلمة " كن " هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض قدرة الله تعالى عند إرادته خلق الشيء وإيجاده، وقد خلق المسيح بهذه الكلمة. وفي تفسيرها وجوه أخرى سبقت في الجزء الثالث من التفسير والإلقاء يستعمل في المعاني والكلام كما يستعمل في المتاع، قال تعالى:فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ } [النحل: 86-87] ومعناه الطرح والنبذ. فلما عبر الله عن التكوين أو البشارة بالكلمة، حسن التعبير بقوله: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي أوصلها إليها وبلّغها إياها.

وأما قوله: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } ففيه وجهان:

(أحدهما): إن معناه إنه مؤيد بروح منه تعالى. ويوضحه قوله فيه:وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [البقرة: 253] وقال في صفات المؤمنين الذين لا يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كان من ذوي القربى:أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22].

(وثانيهما): إن معناه إنه خلق بنفخ من روح الله وهو جبريل عليه السلام، ويوضحه قوله تعالى في أمه:وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [الأنبياء: 91] وقال تعالى فيها:فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [مريم: 17] كما قال في خلق الإنسان بعد ذكر بدئه من طين:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد