الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } * { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } * { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } * { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }

لا يزال الكلام في أهل الكتاب عامة، وكان أول هذا السياق أنهم يفرّقون بين الله ورسله، فيدعون الإيمان ببعضهم ويصرّحون بالكفر ببعض، وإن هذا عين الكفر، وإيمان يتبع فيه الهوى ليس من معرفة الله ومعنى رسالته في شيء. ثم ذكر بعده شيء من عناد اليهود خاصة وإعناتهم وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم إن ينزل عليهم كتاباً من السماء، وبيّن له تعالى إنهم شاغبوا موسى صلى الله عليه وسلم من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، وكفروا بعيسى وبهتوا أمه، وحاولوا قتله وصلبه، فليس كفرهم وعنادهم ناشئا عن عدم وضوح الدليل، بل عن عناد أصيل وهوى دخيل، كأنه يقول له إنه لولا ذلك لبادروا إلى الإيمان بك أيها الرسول، ولما شاغبوك بهذا القال والقيل؛ لأن أمر نبوّتك ورسالتك، أوضح دليلاً وأقوم قيلا مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك. ولهذا ناسب أن يختم الكلام في محاجة اليهود، ويمهّد للكلام في محاجة النصارى، ببيان إن الوحي جنس واحد، وإنه لو كان إيمانهم بمن يدعون الإيمان بهم من الرسل السابقين صحيحاً مبنياً على الفهم والبصيرة، لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل:

{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } أي إنا بما لنا من العظمة والإرادة المطلقة اللائقة بمقام الألوهية، والرحمة الواسعة التي هي شأن الربوبية - قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الذين يدّعي الإيمان بهم هؤلاء الناس، ولم ننزل على أحد من أممهم ولا منهم كتابا من السماء، كما سألوك للتعجيز والعناد؛ لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي، وما هو بالأمر المشاهد الحسي، بل هو أمر روحي، يعدّ الله له النبي،وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52].

الوحي في اللغة يطلق على الإشارة والإيماء، ومنه قوله تعالى:فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 11] وعلى الإلهام الذي يقع في النفس، وهو أخفى من الإيماء ومنه قوله عز وجل:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [القصص: 7] ويظهر إن هذا بعناية خاصة من الله تعالى، وعلى ما يكون غريزية دائمة ومنه قوله تعالى:وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68] وعلى الإعلام في الخفاء، وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى:شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [الأنعام: 112] وأطلق على الكتابة والرسالة لما يكون فيهما من التخصيص.

ووحي الله إلى أنبيائه هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم بعد إن يكون أعدّ أرواحهم لتلقيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة وعرّفه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد بأنه: " عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله، بواسطة أو بغير واسطة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8