الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } * { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً }

بيّن الله لنا في الآيات السابقة ما كان من اليهود من نقض العهد والكفر وقتل الأنبياء... ثم بيّن في هذه الآيات جزاءهم على ما دون ذلك من سيئاتهم، فقال:

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } أي فإذا كان هؤلاء اليهود قد استحقوا بظلم ما ظلموا به أنفسهم، أن نحرّم عليهم طيبات كانت أحلت لهم ولمن قبلهم، فحرّمناها عليهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم. فكيف لا يستحقون أكبر الخزي والنكال في الدنيا والآخرة بنقضهم ميثاق ربهم، وقتلهم لأنبيائه ورسله، وكفرهم بالمسيح وبهتهم لأمه، وتبجحهم بدعوى قتله وصلبه؟ فتعليل تحريم الطيبات عليهم بظلم مبهم منهم، وبما ذكر بعده من المعاصي عطفا عليه زائدا عنه أو بيانا له، يدل على العقاب العظيم والخزي الكبير الذي يستحقونه على نقض الميثاق الأكبر، وما عطف عليه من الكفر والموبقات، وهو المتعلق المحذوف لقوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } إلخ فهو قد حذف ذلك المتعلق، ثم ذكر عقابهم في الدنيا على ما دون ذلك، وهو تحريم بعض الطيبات عليهم، فعلم منه إن ذلك المتعلّق، فعلم منه إن ذلك المتعلّق المحذوف يشمل كل ما أصابهم في الدنيا من الخزي والنكال وفقد الاستقلال، وختم الآيات بذكر عذابهم في الآخرة.

أما الطيّبات التي حرّمها الله عليهم فهي مبيّنة بقوله عز وجل في سورة الأنعام:وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [الأنعام: 146] الآية - هكذا ذهب بعض المفسرين. وتوقف بعضهم فلم يجزم بتعيين ما حرّم عليهم، ولم يعرّف ما نكّره الكتاب. وفي الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين (الأحبار) تفصيل ما حرّم عليهم في التوراة من حيوانات البر والبحر وهي كثيرة جداً. وكانت قد أحلت لهم بقاعدة كون الأصل في الأشياء الحل، وبإحلالها لسلفهم كما ورد في قوله تعالىكُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } [آل عمران: 93] فليراجع تفسير هذه الآية في أول جزء التفسير الرابع.

وتقديم " فبظلم " على " حرّمنا " يفيد الحصر، أي حرّم عليهم ذلك بسبب الظلم لا بسبب آخر - وقد أبهم ما حرّم عليهم هنا؛ لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة، لا بيانه في نفسه. كما أبهم الظلم الذي كان سبباً له، ليعلم القارئ والسامع إن أي نوع من الظلم يكون سبباً للعقاب في الدنيا قبل الآخرة، هذا إذا لم يكن ما عطف عليه بياناً له.

والعقاب قسمان: دنيوي وأخروي، ولكل منهما أقسام سيأتي بسطها، ومن الدنيوي التكاليف الشرعية الشاقة في زمن التشريع، والجزاء الوارد فيها على الجرائم من حد أو تعزير، وما اقتضته سنن الله تعالى في نظام الاجتماع من كون الظلم سبباً لضعف الأمم وفساد عمرانها، واستيلاء أمة أخرى على ملكها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6