الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } * { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً }

بيّنا في تفسير الآيات من أواخر الجزء الماضي، موقع هذه الآيات إلى آخر السورة مما قبلها بالإجمال، ولهاتين الآيتين مناسبة مع ما قبلهما وما بعدهما، وإن كانتا كالغريبتين في هذا السياق الشارح لأحوال المنافقين والكافرين ومحاجّة أهل الكتاب منهم، فإن الله تعالى بيّن فيه كثيراً من عيوبهم ومفاسدهم، لإقامة الحجة عليهم، وتحذير المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم، فإن الله تعالى يكره لهم ذلك كما قال:وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16] ثم بيّن في أثناء ذلك حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه لئلا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول، أو مشروعيته إذا كان حقاً على الإطلاق فيفشو ذلك فيهم، وفيه من الضرر ما ترى بيانه فيما يلي:

قال تعالى: { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } ينسب الحب والبغض أو الكره إلى الله تعالى بالمعنى الذي يليق به، ويلزم الحب الرضا والإثابة وضده ضدهما. والجهر: يقابل السر والإخفاء والكتمان. والسوء من القول: ما يسوء من يقال فيه، كذكر عيوبه ومساويه. والله تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات؛ لأن في هذا الجهر مفسدتين كبيرتين:

(إحداهما): إنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهرون بالسوء، ومن ينسب إليهم هذا السوء، وقد تفضي العداوة إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.

(الثانية): إن الجهر بالسوء بذكره على مسامع الناس، يؤثّر في نفوس السامعين تأثيراً ضاراً، فإن الناس يقتدي بعضهم ببعض، فمن سمع إنساناً يذكر آخر بالسوء لكرهه إياه أو إستيائه منه، يقلّده في ذلك القول إذا كان لم يسبق له مثله، ويزداد ضراوة فيه إذا كان قد سبق وقوعه منه. أو يقلدّ فاعل السوء في عمله، خصوصاً إذا كان السامع من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد، أو من طبقة دون طبقته في الهيئة الإجتماعية، لأن عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخواص لا تلبث أن تفشو في العوام. ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة، يتجرأ على إرتكابه إذا علم أن له سلفا وقدوة فيه، وربما لا يتجرأ عليه إذا لم يعلم بذلك. بل يؤثر سماع القول السوء في نفوس خواص الكهول الأخيار، وليس تأثيره مقصوراً على العوام والصغار، فسماع السوء كعمل السوء، ذاك يؤثر في نفس السامع، وهذا يؤثر في نفس الناظر، وأقل تأثيره أنه يضعف في النفس إستبشاعه وإستغرابه، ولا سيّما إذا تكرر سماع خبره أو النظر إليه.

وإننا نرى علماء التربية يجعلون جميع كتب التعليم غفلا من قول السوء والكلم الخبيث ومن الرفث وأسماء أعضاء التناسل، حتّى إنهم لا يذكرونها في معاجم اللغة التي يراجع فيها طلاب العلوم والفنون؛ حرصاً على أنفسهم أن تعلق بها كلمة خبيثة من كلم السوء تقودها إلى عمل السوء.

السابقالتالي
2 3 4