الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }

قد علم مما سبق مكان هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة مما قبلها، وهي أحكام عامة في الإيمان والعمل وأحوال المنافقين وأهل الكتاب في ذلك. فأما قوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ } إلخ فهو يتصل بما قبله من الآيات القريبة خاصة بما فيه من الأمر العام بالقسط بعد الأمر بالقسط في اليتامى والنساء، فهنالك خص اليتامى والنساء في سياق الاستفتاء فيهن، ولأن حقهن آكد، وظلمهن معهود، وهاهنا عمم الأمر بالقسط لأن العدل حفاظ النظام، وقوام أمر الاجتماع، وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس أو الوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد في ذلك لغناه، أو مراعاته لفقره، لأن العدل والحق مقدمان على الحقوق الشخصية وحقوق القرابة وغيرها.

وكانت محاباة الأقربين معهودة في الجاهلية، لأن أمرهم قائم بالعصبية، فالواحد منهم كان ينصر قومه وأهل عصبيته لأنه يعتز بهم، كما يظلم النساء واليتامى لضعفهن، وعدم الاعتزاز بهن، فحظر الله محاباة المرء نفسه أو أهله هنا وإعطاءهم ما ليس لهم من الحق، يقابل حظر ظلم النساء واليتامى هناك وهضم مالهن من الحق.

روى ابن المنذر من طريق ابن جريح عن مولى لابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفتها سورة النساء قال فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابنه أو ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي فنزلت { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } فتأمل كيف بقي تأثير المحاباة فيهم بعد الإسلام حتى نزلت الآية.

القوامون بالقسط هم الذين يقيمون العدل بالإتيان به على أتم الوجوه وأكملها وأدومها فإن { قَوَّٰمِينَ } جمع قوّام وهو المبالغ في القيام بالشيء، والقيام بالشيء هو الإتيان به مستوياً تاماً لا نقص فيه ولا عوج، ولذلك أمر تعالى بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة إقامة الوزن بالقسط، لتأكيد العناية بهذه الأشياء، ومن بنى جداراً مائلاً أو ناقصاً لا يقال إنه أقام البناء أو أقام الجدار، قال تعالى:فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } [الكهف: 77] وإنما احتاج الجدار إلى الإقامة لأنه كان مائلاً متداعياً للسقوط.

وهذه العبارة أبلغ ما يمكن إن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به، فالأمر بالعدل والقسط مطلقاً يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض: تقول اعدلوا أو اقسطوا، وتقول كونوا عادلين أو مقسطين، وهذه أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة، وتقول: أقيموا القسط، وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط، وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط، أي لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى يكون ملكة راسخة في نفوسكم، والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد، ويكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكمه الناس فيما بينهم.

السابقالتالي
2 3 4 5