الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } * { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً } * { لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } * { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } * { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } * { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً }

بين الله لنا في الآية التي قبل هذه الآية أن جهنم هي مصير من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، وكلا هذين الأمرين كان يكون في زمن الرسول ظاهراً جلياً بمثل ما فعل طعمة من ترك صحبة النبي والمؤمنين، وموالاة أعدائهم من المشركين، كما يظهر ذلك في عصره وغير عصره في كل من بلغته دعوته وتبين له الهدى فيها فتركها وعادى أهلها ووالى أعداءهم، فإن مشاقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة له.

ولكن وراء ذلك أنواعاً من الكفر والضلال لا يصدق على كل واحد منها إنه مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، كما بينا ذلك في تفسير تلك الآية وقلنا: إن كل صنف من أصناف الضالين يوليه الله ما تولى ويوجهه إلى حيث توجه بكسبه واجتهاده لأن الله تعالى وكل أمر النوع الإنساني إلى نفسه، إلا إن يختص من شاء من الناس برحمة من لدنه.

وبقي علينا إن نعرف ما يجوز إن يغفره الله تعالى للناس من أنواع ضلالهم وخطاياهم وما لا يغفره لهم ألبتة فإن هذا مما يحتاج إليه في هذا المقام فبينه تعالى بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وقد تقدم هذا النص بعينه في سياق آخر من هذه السورة ولم يمنع ذلك من إعادته هنا لأن القرآن ليس قانوناً ولا كتاباً فنياً فيذكر المسألة مرة واحدة يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها وإنما هو كتاب هداية ومثاني يتلى لأجل الإعتبار والإستبصار تارة في الصلاة وتارة في غير الصلاة، وإنما ترجى الهداية والعبرة بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يوجه النفوس إليها أو بعدها ويهيؤها لقبولها، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة في النفوس إلا بالتكرار، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم، بل قال بعض علماء الاجتماع: إن نشر التجار للإعلانات التي يمدحون بها سلعهم وبضائعهم ويدلون الناس على الأماكن التي تباع فيها هو عمل بهذه القاعدة فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء ولو من المتهم في مدحه لابد إن يؤثر فيه.

وقال الأستاذ الإمام تقدم صدر هذه الآية في هذه السورة وتتمتها هناكوَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } [النساء: 48] وقد تقدمها هنالك إثبات ضلال أهل الكتاب وتحريفهم ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزله الله على نبيه مصدقاً لما معهم، فقد بين لهم إن اتباع الرسول فبما جاء به والتسليم له درجات - فمنها ما تغلب النفوس على مخالفته نزوات الشهوة وثورات الغضب ثم يعود صاحبه ويتوب، فهذا مما قد تناله المغفرة، وأما التوحيد الذي هو أساس الدين فلا يغفر الميل عنه إلى ضرب من ضروب الشرك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد