الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } * { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }

أقول ما تقدم في بيان سبب نزول الآيات التي قبل هذه إن (طعمة) الخائن لم يكد يفتضح أمره حتى فرّ إلى المشركين وأظهر الشرك والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم كأنه كان قد أسلم ليتخذ من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أعواناً ونصراء يعينونه على اتباع الهوى والخيانة بالعصبية على المخالفين، وما علم إن الإسلام قد جاء ليبطل الخيانة والضلال ويمحق الأباطيل ويؤيد الحق والفضيلة، أفلا يسمع هذا المبطلون من أهل أوربة الذين لا يزالون يقلدون قسوس قرونهم المظلمة مثيري الحروب الصليبية في زعمهم إن المسلمين كانوا في العصر الأول جمعية لصوص وقطاع طريق!! ألا يدلوننا على حكومة من أرقى حكوماتهم أوصلها دينها ومدنيتها وعلومها وحضارتها إلى الرضا بمساواة أبنائها وأوليائها بأعدى أعداءها، ويشددون في ذلك مثلما شددت الآيات التي تقدم تفسيرها في قضية (طعمة) مع اليهودي؟؟.

كيف ونحن نراهم في بلادنا لا يرضون بالمساواة بيننا وبينهم، وإن الرجل من أشرار جناتهم وتحوت صعاليكهم قد يقتل الواحد من خيار الناس في مصر فيحاكمه قنصل دولته كما يريد، ويحكم عليه بأن يغيب عن الأرض التي لوثها بدم الجناية زمناً طويلاً أو قصيراً ثم يعود إن شاء؟.

فعلى هذا الذي تقدم يكون قوله تعالى: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } وما بعده نزل في سياق تلك القصة وإن ضمير { نَّجْوَاهُمْ } يعود على أولئك المختانين لأنفسهم الذين يبيتون في ليلهم من الأقوال ما لا يرضي ربهم، وهذا هو المختار.

والنجوى مصدر أو اسم مصدر ومعناه المسارة بالحديث، قيل أصله من النجوة وهي المكان المرتفع عما حوله بحيث ينفرد من فيه عمن دونه، وقيل من النجاة كأنه نجا بسره ممن يحذر اطلاعهم عليه، ويوصف به فيقال قوم نجوى ورجلان نجوى.

ومنه قوله تعالى في سورة الإسراءوَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [الإسراء: 47] ومن استعماله بالمعنى المصدري في القرآن قوله تعالى:مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [المجادلة: 7] وقوله:وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى } [الأنبياء: 3] وأجاز المفسرون هنا أن تكون النجوى بمعنى المتناجين أي المتسارّين ويكون المعنى: لا خير في كثير من المتناجين الذين يسرون الحديث من جماعة (طعمة) الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته، ومن سائر الناس إلا من أمر منهم بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.

وهذه الثلاثة هي مجامع الخيرات التي يحتاج فيها إلى النجوى، فيكون الاستثناء متصلاً على ظاهر قواعد النحو.

وأما على القول بأن النجوى هنا بمعنى التناجي فالظاهر أن الاستثناء منقطع أي لا خير في كثير من تناجي هؤلاء الناس ولكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فذلك هو الخير الذي يكون في نجواه الخير - وإلا فإنهم يقدرون للإعراب مضافاً محذوفاً والتقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف إلخ وقد تقدم تحرير مثل هذه المسألة في تفسير

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد