الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } * { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ }

كان الكلام من أوّل السورة إلى هنا في إثبات نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجّة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أمّا هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام. قررهما الأستاذ الإمام هكذا:

قالوا: إذا كنت يا محمّد على ملّة إبراهيم والنبيّين من بعده - كما تدّعي - فكيف تستحلّ ما كان محرّماً عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرّماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدّعي أنّك مصدّق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخصّ إبراهيم بالذكر وتقول: إنّك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى.

وأما الثانية فهي أنّهم قالوا: إنّ الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت المقدس ويصلّون إليه؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا، ولما تحوّلت عن بيت المقدس وعظّمت مكاناً آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.

فقوله تعالى: { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } هو جواب عن الشبهة الأولى.

قال الأستاذ الإمام: ولكن الجلال وكثيراً من المفسرين يقرّرون الشبهة ولا يبيّنون وجه دفعها بياناً مقنعاً، إذ يعترفون بأنّ بعض الطيبات كانت محرمة على إسرائيل، والصواب ما قصه الله تعالى علينا في هذه الآية وغيرها من الآيات التي توضّحها، وهي أنّ كلّ الطعام كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبل بالأولى، ثم حرّم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديباً، كما قال:فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء: 160] الآية.

فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل، كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب نفسه. ومعنى تحريم الشعب ذلك على نفسه: إنّه ارتكب الظلم واجترح السيئات التي كانت سبب التّحريم، كما صرّحت الآية. فكأنه يقول: إذا كان الأصل في الأطعمة الحلّ، وكان تحريم ما حرّم على إسرائيل تأديباً على جرائم أصابوها، وكان النبيّ وأمته لم يجترحوا تلك السيئات، فَلِمَ تحرّم عليهم الطيبات؟ ثم قال تعالى مبيّناً تقرير الدفع وسنده { قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها.

أقول: كأنّه يقول: أما إنّكم لو جئتم بما عندكم منها لما كان إلاّ مؤيداً للقرآن فيما جاء به من أنّها هي حرّمت عليكم ما حرّمت. وعللت جملة التكاليف بأنّكم شعب غليظ الرقبة متمرد يقاوم الرّب، كما قال موسى عند أخذ العهد عليكم بحفظ الشريعة (اقرأ الفصل 31 من سفر التثنية) وفي غير ذلك من فصول التوراة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10