الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

ذكر جمهور المفسّرين إنّ قوله تعالى: { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } خطاب للمؤمنين وأنّه كلام مستأنف سبق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكافرين ولا يقبل منهم. وذهب الأستاذ الإمام إلى أنّ الخطاب لا يزال لأهل الكتاب. ذلك إنّ من سنّة القرآن إن يقرن الكلام في الإيمان بذكر آثاره من الأعمال الصالحة. وأدلّها عليه بذل المال في سبيل الله فلمّا حاجّ أهل الكتاب في دعاويهم في الإيمان والنبوّة وكونهم شعب الله الخاص وكون النبوّة محصورة فيهم، وكونهم لا تمسّهم النار إلاّ أيّاماً معدودات خاطبهم في هذه الآية بآية الإيمان وميزانه الصحيح، الذي يعرف به المرجوح والرجيح، وهو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النيّة كأنّه يقول: إنّكم أيّها المدعون لتلك الدعاوي والمفتخرون بالكتاب الإلهي واتّصال حبل النسب بالنبيين قد أحضرت أنفسكم الشحّ وآثرتم شهوة المال على مرضاة الله وإذا أنفق أحدكم شيئاً ما فإنّما ينفق من أرد إمّا يملك وأبغضه إليه وأكرهه عنده. لأنّ محبّة كرائم المال في قلبه تعلو محبّة الله تعالى، والرغبة في ادّخاره تفوق لديه الرغبة فيما عند ربّه من الرضى والمثوبة، ولن تنالوا البرّ فتعدّوا من الأبرار الذين هم المؤمنون الصادقون، حتّى تنفقوا ممّا تحبّون، فحذف ذكر الإيمان استغناء بذكر أكبر آياته، وأوضح دلالاته، وهي إنفاق المحبوبات، وبذل المشتهيات. وقال الأستاذ الإمام: إنّ المتبادر من الإنفاق هنا هو إنفاق المال لأنّ شأنه عند النفوس عظيم حتّى إنّ الإنسان كثيراً ما يخاطر بنفسه ويستسهل بذل روحه لأجل الدفاع عن ماله أو المحافظة عليه. أقول: وتؤيّده آية 177 من سورة البقرة الآتية على أنّ المال يعمّ النقدين وغيرهما ممّا يتموّله الناس، وشرط البرّ بذل بعض ما يحبّه الإنسان من كلّ شيء حتّى الطعام وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى:وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [الإنسان: 8] أي على حبّهم إيّاه. والوجه الثاني إنّ الضمير عائد إلى الله تعالى أي لأجل حبّه تعالى والمال يجمع جميع المحبوبات ويوصل إليها.

واختلفوا في البرّ المراد هنا الذي لا يناله المرء أي يصيبه ويدركه إلاّ إذا أنفق ممّا يحبّ فقيل هو برّ الله تعالى وإحسانه مطلقاً وقيل الجنّة وقيل هو ما يكون به الإنسان بارّاً وهو ما تقدّم تفصيله في قوله تعالى:لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 177] الآية، وفيهاوَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ } [البقرة: 177] إلخ. وأنت ترى إنّه في هذه الآية جعل إيتاء المال على حبّه شعبة من شعب البرّ كما جعل في سورة الإنسان إطعام الطعام على حبّه صفة من صفات الأبرار.

السابقالتالي
2 3 4