الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } * { بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

هذا بيان حال أخرى من أحوال أهل الكتاب، تمثّلها طائفة أخرى تخون الأمانة وتستحلّ أكل أموال من ليس من الإسرائيليين بالباطل غروراً في الدين وتأويلاً للكتاب. وهي قد جاءت في مقابل الطائفة التي تكيد للمسلمين ليرجعوا عن دينهم. وقال الأستاذ الإمام في قوله: { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } إلخ. هذه الآية جاءت ببعض التفصيل لما أجمل في الآيات السابقة من غرور أهل الكتاب وزعمهم أنّهم شعب الله الخاص، وأنّ الدين والحقّ من خصائصهم. وابتداؤها بالعطف يشعر بمعطوف محذوف حذف إيجازاً، لأنّ السياق لا يقتضي ذكره وهو مبيّن في آيات أخرى كقوله تعالى:مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } [آل عمران: 113] إلخ. فكأنّه هاهنا يعطف على ما هنالك أي منهم كذا ومنهم كذا. وإنّما قال: كأنّه لأنّ آية " من أهل الكتاب " إلخ في هذه السورة وهي متأخّرة عن هذه الآيات. ولعلّ جعله معطوفاً على ما قبله باعتبار المفهوم أقرب، فكأنّه قال منهم طائفة تكيد للمسلمين ومنهم من يستحلّ أكل أموالهم وأموال غيرهم، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً وإنّما أعاد ذكر { أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ } ولم يبتدئ الآية بقوله: { وَمِنْهُمْ } - والكلام فيهم - للإشعار بأنهم فعلوا ذلك باسم الكتاب الذي حرّفوا نهيه عن أكل أموال الناس بالباطل فزعموا أنّه لم ينههم إلاّ عن خيانة إخوتهم الإسرائيليين. وقد تقدّم تفسير القنطار [آية 14] وقوله: { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } معناه إلاّ مدّة دوامك أيّها المؤتمن له قائماً على رأسه تلحّ بالمطالبة، أو تلجأ إلى التقاضي والمحاكمة، { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أي ذلك الترك للأداء بسبب قولهم ليس علينا في أكل أموال الأميين أي العرب تبعة ولا ذنب. فكأنّه يقول إنّ استحلال هذه الخيانة جاءهم من الغرور بشعبهم والغلو في دينهم، فإنّ ذلك يستتبع إحتقار المخالف إحتقاراً يهضم به حقّه الثابت في المعاملة - قال الأستاذ الإمام: كأنّهم يقولون إنّ كل من ليس من شعب الله الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من نظر الله ومبغوض عنده، فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فيحلّ أكله متى أمكن، وقد ردّ الله عليهم هذه المزاعم بقوله: { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إنّ ذلك كذب عليه لأنّ ما كان منه فهو ما جاء في كتابه وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة الأميين وأكل أموالهم بالباطل وهم يعلمون أنّ ذلك ليس فيها، ولكنّهم لا يأخذون الدين من الكتاب، وإنّما لجأوا إلى التقليد فعدّوا كلام أحبارهم ديناً ينسبونه إلى الله، وهؤلاء يقولون في الدين بآرائهم ويحرّفون الكلم عن مواضعه ليؤيّدوا بذلك أقوالهم، فكلّ هذه الدواهي جاءتهم من هذه الناحية، ناحية التقليد والأخذ بكلام العلماء في الحلال والحرام، وهو مما لا يؤخذ فيه إلاّ بكتاب الله ووحيه.

السابقالتالي
2 3 4