الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } * { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } * { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } * { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ }

أقول: بعد أن بيّن سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات وما كان من أمر قومه في الإيمان والكفر به، كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنّة المعتادة والمحاجّين فيه بغير علم، ورد على المنكرين لذلك فقال: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } أي إنّ شبه عيسى وصفته في خلق الله إيّاه على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك، ثم فسّر هذا المثل بقوله: { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } أي قدّر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميّت أصابه الماء فكان طيناً لازباً ذا لزوجة { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي ثمّ كوّنه تكويناً آخر بنفخ الروح فيه. وقد تقدّم تفسير العبارة إلاّ أنّه كان الظاهر أن يقول هنا: ثمّ قال له: كن فكان. ولكنّه قال: " فيكون " لتصوير الحال الماضية، كما يقول أهل المعاني في وضع المضارع موضع الماضي أحياناً. وخطر لي الآن أنّه يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع { كُن فَيَكُونُ } والمعنى: ثمّ قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجّه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالاً. ويظهر هذا في مثل قوله تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } [الأنعام: 73] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا. لأنّ قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة. ولعلّ من تأمّله حق التأمّل لا يجد عنه منصرفاً. والعطف بثمّ لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخّره عن الخلق الأول. وهل كان في هذه المدّة على صفة واحدة أو تقلب في أطوار مختلفة كما تتقلّب ذريّته؟ اقرأ قوله تعالى:وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [نوح: 14] وقوله عزّ وجلّ:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 12-16] فالسلالة المستخرجة من الطين هي المكوّن الأول الذي يعبّرون عنه بلسان العلم الآن بالبروتوبلازما ومنها تكون أصلنا في ذلك الطور، لأنّه تعالى يقول: إنّه خلقه من تلك السلالة، ثمّ انتقل إلى طور التولّد بواسطة النطفة في القرار المكين وهو الرحم. ثمّ انتقل إلى طور تحوّل النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة إلى هيكل من العظام يكسى لحماً، وقد عدّ هذا طوراً واحداً، ثمّ أنشأه خلقاً آخر وهو الطور الأخير. ثمّ ذكر أن له طوراً آخر في الموت وطوراً آخر في البعث وهو آخر أطواره فكلّ طور من الأطوار التي قبل الموت حادث وحدوثه لأول مرّة لم يكن مسبوقاً بنظير ولم يكن معتاداً، وإنّما وجد بمشيئة الله وتكوينه المعبّر عنه بقوله: " كن فيكون " فهل يعزّ على صاحب هذه المشيئة أن يخلق عيسى من غير أب؟ كلاّ.

السابقالتالي
2 3 4 5