الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } * { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } * { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } * { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

قوله تعالى: { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } شروع في خبر عيسى نفسه بعد قصّة أمّه وقصّة زكريا عليهم السلام وهو بدل من قوله:وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ } [آل عمران: 42] وما بينهما اعتراض ناطق بحكمة نزول الآيات مبيّن وجه دلالتها على صدق من أنزلت عليه. والمعنى أن الملائكة بشّرت مريم بالولد الصالح حين بشّرتها بإصطفاء الله إيّاها وتطهيره لها وأمرتها بمزيد عبادته والاستغراق في شكره. والمراد بالملائكة هنا الروح جبريل لقوله تعالى:فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [مريم: 17] إلخ الآيات وذكر بلفظ الجمع لما تقدّم في قصّة زكريا، أو لأنّه كان معه غيره. وفي لفظ (كلمة) أربعة وجوه: أحدها: أنّ المراد بالكلمة كلمة التكوين لا كلمة الوحي. ذلك أنّه لمّا كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الباري عزّ وجلّ ممّا يعلو عقول البشر عبّر عنه سبحانه بقوله:إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] فكلمة " كن " هي كلمة التكوين وسيأتي تفسيرها وهاهنا يقال أنّ كلّ شيء قد خلق بكلمة التكوين فلماذا خصّ المسيح بإطلاق الكلمة عليه وأجيب عن ذلك بأنّ الأشياء تنسب في العادة والعرف العام في البشر إلى أسبابها ولمّا فقد في تكوين المسيح وعلوق أمّه به ما جعله الله سبباً للعلوق وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البيوض التي يتكوّن منها الجنين أضيف هذا التكوين إلى كلمة الله، وأطلقت الكلمة على المكون إيذاناً بذلك أو جعل كأنّه نفس الكلمة مبالغة. وهذا هو الوجه المشهور.

الوجه الثاني: أنّه أطلق على المسيح للإشارة إلى بشارة الأنبياء به فهو قد عرّف بكلمة الله أي بوحيه لأنبيائه. قاله الأستاذ الإمام والكلمة تطلق على الكلام كقوله:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 171] إلخ.

الوجه الثالث: أنّه أطلق عليه لفظ الكلمة لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرّفه قومه اليهود حتّى أخرجوه عن وجهه وجعلوا الدين مادياً محضاً قاله الرازي وجعله من قبيل وصف الناس للسلطان العادل بظلّ الله ونور الله لما أنّه سبب لظهور ظلّ العدل ونور الإحسان قال فكذلك كان عيسى سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته له وإزالة الشبهات والتحريفات عنه.

الوجه الرابع: أنّ المراد بالكلمة كلمة البشارة لأمّه فقوله بكلمة منه معناه بخبر من عنده أو بشارة وهو كقول القائل ألقى إلى فلان كلمة سرّني بها بمعنى أخبرني خبراً فرحت به قاله ابن جرير واستشهد له بقوله:وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } [النساء: 171] يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها قال فتأويل القول وما كنت يا محمّد عند القوم إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك ببشرى من عنده هي ولد لك اسمه المسيح عيسى بن مريم ثمّ قال مستدلاً على هذا ما نصّه: ولذلك قال عزّ وجلّ اسمه المسيح فذكر ولم يقل اسمها فيؤنث والكلمة مؤنثة لأنّ الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان وإنّما هي بمعنى البشارة، فذكرت كنايتها كما تذكر كناية الذرية والدابة والألقاب إلى آخر ما أطال به في المسألة من جهة العربية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8