الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } * { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

أقول: لمّا بيّن سبحانه وتعالى أنّ محبّته منوطة باتّباع الرسول فمن اتّبعه كان صادقاً في دعوى حبّه لله؛ وجديراً بأن يكون محبوباً منه جلّ علاه، أتّبع ذلك ذكر من أحبّهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبنون طريق محبّته، وهي الإيمان به مع طاعته، فقال { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي اختارهم وجعلهم صفوة العالمين وخيارهم بجعل النبوّة والرسالة فيهم، فآدم أوّل البشر ارتقاء إلى هذه المرتبة فإنّه بعدما تنقّل في الأطوار إلى مرتبة التوبة والإنابة اصطفاه تعالى واجتباه كما قال:ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 122] فكان هادياً مهدياً وكان في ذريته من النبيين والمرسلين من شاء الله تعالى وأمّا نوح عليه السلام فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ونجا هو وأهله في الفلك فكان بذلك أباً ثانياً للجمّ الغفير من البشر، وكان هو نبيّاً مرسلاً وجاء من ذريّته كثير من النبيين والمرسلين، ثمّ تفرّقت ذريته وانتشرت وفشت فيهم الوثنية حتّى ظهر فيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبيّاً مرسلاً وخليلاً مصطفى وتتابع النبيّون والمرسلون من آله وذريّته وكان أرفعهم قدراً وأنبههم ذكراً آل عمران قبل أن تختم النبوة بولد إسماعيل عليهم الصلاة والسلام.

{ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } قيل إنّ الذريّة من مادّة ذرأ المهموزة أي خلق كما أنّ البرية من مادّة برأ وقيل من مادّة ذرو، فأصلها ذروية وقيل هي من الذرّ وأصلها فعلية كقمرية. قال الراغب: والذرية أصلها الصغار من الأولاد وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معاً في التعارف ويستعمل للواحد والجمع وأصله الجمع. وقال الأستاذ الإمام: يقال إنّ لفظ الذرية قد يطلق على الوالدين والأولاد خلافاً لعرف الفقهاء وهو قليل والمشهور ما جرى عليه الفقهاء وهو أنّ الذريّة الأولاد فقط فقوله " بعضها من بعض " ظاهر على الأول. ويخصّ على الثاني بآل إبراهيم وآل عمران. ويصحّ أن يكون بمعنى أنّهم أشباه وأمثال في الخيرية والفضيلة التي هي أصل إصطفائهم على حدّ قوله تعالى:ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [التوبة: 67] وهو استعمال معروف. أقول: وهؤلاء الذين يشبه بعضهم بعضاً من هذه الذرية هم الأنبياء والرسل قال تعالى في سياق الكلام على إبراهيم:وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 84-87] { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي إنّه سبحانه وتعالى كان سميعاً لقول امرأة عمران عليماً بنيّتها في وقت مناجاتها إيّاه وهي حامل بنذر ما في بطنها له حال كونه محرّراً، أي معتقاً من رقّ الأغيار لعبادته سبحانه وخدمة بيته أو مخلصاً لهذه العبادة والخدمة لا يشتغل بشيء آخر، وثنائها عليه تعالى عند هذه المناجاة بأنّه السميع للدعاء، العليم بما في أنفس الداعين والداعيات.

السابقالتالي
2 3 4 5 6