الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما مثاله: إن الله تعالى قد وضع لنا بفضله ورحمته قاعدة نرجع إليها عند تفرق الأهواء واختلاف الآراء وهي الإعتصام بحبله ولذلك نهانا عن التفرق بعد الأمر بالإعتصام، الذي قلنا في تفسيره: إنه تمثيل لجمع أهوائهم وضبط إراداتهم. ومن القواعد المسلمة: إنه لا تقوم لقوم قائمة إلا إذا كان لهم جامعة تضمهم ووحدة تجمعهم وتربط بعضهم ببعض، فيكونون بذلك أمة حية كأنها جسد واحد، كما ورد في حديث: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه أحمد ومسلم من حديث النعمان بن بشير. وحديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً " رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى.

فإذا كانت الجامعة الموحدة للأمة هي مصدر حياتها، سواء أكانت مؤمنة أم كافرة، فلا شك أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم لأنهم يعتقدون أن لهم إلهاً واحداً يرجعون في جميع شؤونهم إلى حكمه الذي يعلو جميع الأهواء ويحول دون التفرق والخلاف، بل هذا هو ينبوع الحياة الإجتماعية لما دون الأمم من الجمعيات حتى البيوت - العائلات - ولما كان لكل جامعة وكل وحدة حفاظ يحفظها أرشدنا سبحانه وتعالى إلى ما نحفظ به جامعتنا التي هي مناط وحدتنا وأعني بها الإعتصام بحبله فقال: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104]. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ الجامعة وسياج الوحدة.

وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى " منكم " هل معناه: بعضكم، أم " من " بيانية؟ ذهب مفسرنا - الجلال - إلى الأول، لأن ذلك فرض كفاية. وسبقه إليه الكشاف وغيره. وقال بعضهم: بالثاني، قالوا: والمعنى: ولتكونوا أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.

قال الأستاذ الإمام: والظاهر أن الكلام على حد " ليكن لي منك صديق " فالأمر عام، ويدل على العموم قوله تعالى:وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [العصر: 1 - 3] فإن التواصي هو الأمر والنهي، وقوله عزّ وجلّ:لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78-79] وما قص الله علينا شيئاً من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به.

وقد أشار المفسر - الجلال - إلى الإعتراض الذي يرد على القول بالعموم وهو أنه يشترط فيمن يأمر وينهى أن يكون عالماً بالمعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه، وفي الناس جاهلون لا يعرفون الأحكام، ولكن هذا الكلام لا ينطبق على ما يجب أن يكون عليه المسلم من العلم، فإن المفروض الذي ينبغي أن يحمل عليه خطاب التنزيل هو أن المسلم لا يجهل ما يجب عليه، وهو مأمور بالعلم والتفرقة بين المعروف والمنكر، على أن المعروف عند إطلاقه يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة والمنكر ضده، وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة، ولا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على الدر، ولا فتح القدير ولا المبسوط، وإنما المرشد إليه - مع سلامة الفطرة - كتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحداً جهله ولا يكون المسلم مسلماً إلا به، فالذين منعوا عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جوزوا أن يكون المسلم جاهلاً لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين المعروف والمنكر، وهو لا يجوز ديناً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد