الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } * { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

سبق التذكير باتخاذ العجل في قوله تعالى:وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [البقرة: 51] ثم أعاده هنا بعبارة وأسلوب آخرين في سياق آخر. أمّا إختلاف العبارة والأسلوب فظاهر، وأمّا السياق فقد كان أوّلاً في تعداد النعم على بني إسرائيل وبيان ما قابلوها به من الكفران، وهو هنا في ذكر الآيات وردّ شبهاتهم المانعة بزعمهم من الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. فهناك يقول: إنّ النعم التي أسبغها الله عليكم لم يكن لها من شكر عندكم، إلاّ اتخاذ عجل تعبدونه من دونه. وهاهنا يقول: إن الآيات البيّنات على النبوّة والوحدانيّة، لم تزدكم إلاّ إيغالاً في الشرك وانهماكاً في الوثنيّة، فكيف تعتذرون عن الإيمان بمحمد بأنكم لا تؤمنون إلاّ بما أنزل إليكم وهذا شأنكم فيه؟ ومجموع الآيتين ينبئ بفساد قلوب القوم، وفساد عقولهم حتى لا مطمع في هداية أكثرهم من جهة الوجدان، ولا من ناحية العقل والجنان. وهذه البيّنات التي ذكرها هاهنا قد كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وأمّا النعم التي ذكرها هناك فقد كانت في أرض الميعاد كما تقدّم. ووجه الاتّصال بين هذه الآية وما قبلها قد علم ممّا قلناه في السياق، وفيه المقابلة بين معاملتهم لموسى عليه السلام ومعاملتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: قلوبنا غلف، وادعوا أنّهم مأمورون بأن لا يؤمنوا إلاّ بما أُنزل عليهم خاصّة. وقد علم من هذه الحجج كلّها بطلان شبههم وكذبهم في دعواهم، وأنّه لا عذر لهم في ترك الإيمان.

قال: { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } أي من بعد هذا المجيء لا من بعد موسى، والمراد أنّه لم يكن لهم عذر في ذلك الإتخاذ فإنّه بعد بلوغ الدعوة. وقيام الحجّة؛ ولذلك قال { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } وأي ظلم أعظم من الشرك بالله تعالى؟ ولا تغفل عن الإيجاز في قوله: { مِن بَعْدِهِ } وحذف مفعول { ٱتَّخَذْتُمُ } أي اتخذتموه إلهاً.

ثم ذكرهم هنا أيضاً بأخذ الميثاق ورفع الطور، كما ذكرهم به في آية تقدّمت، وقد قال هناك:خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } [البقرة: 63] وقال هنا: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ } وأمرهم في تلك بالحفظ، وأمرهم في هذه بالفهم والطاعة. وقلنا في تفسير { وَٱذْكُرُواْ }: إن المراد الحث به على العمل، فالعبارتان تتلاقيان في المعنى والمراد.

وفي اختلاف النظم والأسلوب، حجّة على الذين توهموا أن إعجاز القرآن في البلاغة إنّما هو في السبق إلى العبارة التي يتأدّى بها المعنى على أكمل الوجوه الممكنة في نظم الكلمات العربيّة. رأى هؤلاء أنّ المعنى الذي يفيد علماً بشيء ما له كلمات في اللغة تؤدّيه بوجوه من النظم، وأنّ الكلمات والوجوه محدودة، فمَنْ سبق إلى أتمّها أداء وأبلغها تأثيراً، كان كالسابق إلى إنتقاء أكرم جوهرة من طائفة من الجواهر أمامه، أو إلى أنفس عقد وأحسنه نُظماً من عقود عرضت عليه.

السابقالتالي
2 3 4 5