الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } * { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }

عهد في سيرة البشر أن الأمّة توعظ وتنذر، فتتعظ وتتدبّر، فإذا طال عليها الأمدّ بعد النذير تقسو القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، وتفسق عن أمر ربها، وتنسى ما لم تعمل به ممّا أنذرت به، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل، وزخرف القال والقيل، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدّم وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن.

بيّن الله تعالى هذه السنّة الإجتماعية في سورة الحديد بقوله:أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16] ولهذا كان تعالى يرسل الرسل بعضهم في إثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلّوا. ولا يعرف التاريخ شعباً جاءت فيه الرسل تترى كشعب إسرائيل، لذلك كانوا بمعزل عن صحّة العذر بطول الأمد على الإنذار. وفي ناحية عمّا يُرجى قبوله من التعلّل والإعتذار؛ لهذا قال تعالى بعد كلّ ما تقدّم: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } فلم يمرّ زمن بين موسى وعيسى آخر أنبيائهم، إلاّ وكان فيه نبيّ مرسل، أو أنبياء متعدّدون يأمرون وينهون كأنّه يقول: اعلموا يا بني إسرائيل أنّه إن كان لطول الأمد على النبوّة وبعد العهد بالرسل يد في تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع، وكان في ذلك وجه لإعتذار بعض المتأخّرين، فإنّ ذلك لا يتناولكم، فإنّ الرسل قد جائتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان.

ذكر رسل بني إسرائيل بالإجمال، لبيان ما ذكر، ثم خص بالذكر المسيح عليه السلام فقال: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } فأمّا البينات فهي ما يتبيّن به الحق من الحُجَج القيّمة والآيات الباهرة. وقال الأستاذ الإمام: المراد بها ما دعا إليه من أحكام التوراة، وأمّا روح القدس فهو روح الوحي الذي يؤيّد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم، وهو المراد بقوله تعالى:وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [الشورى: 52] الآية. ويطلق عليه روح القُدس؛ لأنّ التعليم الذي يكون به مقدّس، أو لأنه يقدّس النفوس كما يطلق عليه " الروح الأمين " لأن النبيّ الموحى إليه يكون على بيّنة من ربّه، فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه، قال تعالى في القرآن:نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [الشعراء: 193-194].

ثم قال الأستاذ: ذهب جمهور المفسّرين إلى أن المراد بروح القدس: الملك المسمّى بجبريل الذي ينزل على الأنبياء، ومنه يستمدون الشرائع عن الله تعالى، وهو على حدّ قولهم " حاتم الجود " وذكر بعضهم وجها آخر، وهو: إنّ المراد بها روح عيسى نفسه، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه، أو لأنّه أنزل عليه الإنجيل بالتعاليم التي تقدّس النفوس، بل قال بعضهم: إن روح القدس هو الإنجيل، والمراد من الكل واحد، وهو أن الله تعالى أرسل إليهم عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد موسى، وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك الرسل من الوحي أو من قوّة الروح، وزكاء النفس ومكارم الأخلاق، ونسخ بعض الأحكام، وقد كان حظّه مع ذلك منهم كحظّ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتي.

السابقالتالي
2 3 4