الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } * { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }

كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل بها بعد توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، وبيان أنّهم نقضوا ميثاق الله تعالى ولم يأتمروا بها، وفي هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ الله تعالى الميثاق عليهم بإجتنابها، وبيان أنّهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها، وقد قال هناك:وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [البقرة: 83] أي الذين نزلت عليهم التوراة، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال:ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } [البقرة: 83] وقال هنا: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } تمادياً في سياق الإلتفات، وتذكيراً بوحدة الأمّة واعتبارها كالشخص الواحد، يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر، ما استنوا بسنتهم، وجروا على طريقتهم. كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسيّة: وطبع ملكاته بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل، وحلول مواد أخرى في محلّها تتمرن على مثل ذلك العمل، فما يفعله الشخص في صغره، يبقى أثره في قواه في كبره، فكذلك الأمم.

وقد أورد النهي عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد معنى وحدة الأمّة، وتحدث في النفس أثراً شريفاً يبعثها على الإمتثال - إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثّر - فقال: { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } فجعل دم كل فرد من أفراد الأمّة كأنه دم الآخر عينه، حتّى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده. وقال: { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } على هذا النسق. وهذا التعبير المعجز ببلاغته، خاص بالقرآن. فهذه الأحكام لا تزال محفوظة عند الإسرائيليّين في الكتاب، وإن لم يجروا عليها في العمل، ولكن العبارة عنها عندهم، لا تطاول هذه العبارة التي تدهش صاحب الذوق السليم، والوجدان الرقيق، فهذا إرشاد حكيم طلع من ثنايا الأحكام يهدي إلى أسرارها، ويوميء إلى مشرق أنوارها، من تدبّره علم أنه لا قوام للأمم، إلاّ بالتحقق بما تضمّنته هذه الحكم، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه الآخرين ودمّه دمّهم، لا فرق في الإحترام بين الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه، وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه الذين وحّدت بينه وبينهم الشريعة العادلة والمصالح العامة، هذا هو الوجه الوجيه في الآية، وقيل: معناها لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل والإخراج من الديار. ويقال في قوله: (لا تسفكون) كما قيل قبله في قوله:لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } [البقرة: 83] من تضمن صيغة الخبر للتأكيد.

وقوله تعالى: { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } فيه وجهان: أحدهما: إنّه يخاطبهم بما كان من إعتراف سلفهم بالميثاق وقبوله، وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه السلام.

السابقالتالي
2 3 4