الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } * { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }

كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يرون أنّ أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود؛ لأنّهم موحّدون ومصدّقون بالوحي والبعث في الجملة، ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجاً؛ لأنّه مصدّق لما معهم في الجملة، ومجل لجميع شبهات الدين، وحالّ لجميع إشكالاته بالتفصيل، وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عُسراًوَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157].

كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيّاً على وجه نظريّ معقول لولا أنّهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسيّة، ولم يجعلوه هداية روحيّة؛ ولذلك كانوا يتصرّفون فيه بإختلاف المذاهب والآراء، ويحرّفون كلمه عن مواضعها بحسب الأهواء. وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا، إلاّ بعد ما قصّ عليهم من نبأ بني إسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات، ما علم به أنّهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة، لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبيّناً في نفسه لا يتطرّق إليه ريب، ولا يتسرّب إليه شكّ؛ ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدىً للمتّقين من أهل الكتاب وغيرهم، وثنّى ببيان أنّ من الناس مَنْ يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثمّ أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلاّ قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشدّ الناس استكباراً عن الإيمان وإيذاءً للرسول ولمَنْ اتّبعه من المؤمنين. وبعد هذا كلّه أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجاً، ووصل الإنكار بحجّة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجّة النظريّة داحضة. فعلم بهذا أنّ الكلام لا يزال متّصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان، كلّما بعُد العهد جاء ما يذكّر به تذكيراً.

قال تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } كان الظاهر أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة، ولكن خاطب المؤمنين معه؛ لأنّهم كانوا يشاركونه في الألم من إيذائهم والطمع بهدايتهم فأشركهم بالتسلية كما سبق؛ ولأنّ طمع بعض المؤمنين بإيمانهم كان يحملهم على الإنبساط معهم في المعاشرة إلى حدّ الإفضاء إليهم ببعض الشؤون المليّة المحضة واتّخاذهم بطانة، وكان يعقب ذلك من الضرر ما يعقب، حتّى نهاهم الله تعالى عن اتّخاذ البطانة من دون المؤمنين إذا كانوا موصوفين بأوصاف هؤلاء، وذلك قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }

السابقالتالي
2 3 4 5