الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

أقول: وصفهم الله تعالى بأنّه قد طرأ عليهم بعد رؤية تلك الآيات ما أزال أثرها من قلوبهم، وذهب بعبرتها من عقولهم، فقال: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فالعطف بـ (ثمّ) يفيد أنّ الأوّلين منهم قد خشعت قلوبهم لمّا رأوا في زمن موسى عليه السلام ما رأوا، ثمّ خلف من بعدهم خلف كان أمر قسوتها ما وصفه عزّ وجلّ. والقسوة: الصلابة، وهي من صفات الأجسام. ووصف القلوب بالقسوة مجاز تشبيه، ممّا يسمونه الإستعارة بالكناية، ويصحّ في " أو " الترديد والتشكيك، وهو بالنسبة إلى المخاطبين لا إلى المتكلّم بإعتبار ما يعهد في التخاطب العربيّ، كأنّ عربيّاً يحدّث آخر ويقول له: إنّ هذه القلوب في قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها. ويصحّ فيها التقسيم، أي إنّ القسوة عمّت قلوبكم فأقلّها قسوة يشبه الحجر الصلد، ومنها ما هو أشدّ منه قسوة. وأظهر منهما أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة، أي: بل هي أشدّ قسوة من الحجارة، إذ لا شعور فيها يأتي بخير، ولا عاطفة تفيض منها بعبرة، والحجارة ليست كذلك؛ لأنّ منها ما يفيض بالخيرات، ومنها ما يكون موضع ظهور آثار القدرة الإلهية في الجمادات.

وصف الحجارة بالثلاث الصفات الآتية، بعد أن شبّه القلوب بها في الصلابة المطلقة، وفرّق بين القلوب وبينها بالإضراب والإنتقال إلى أنّ القلوب أشدّ صلابة، وأراد أن يبيّن بهذه الصفات وجه ضعف الصلابة في الحجارة وشدّتها في القلوب. مكان الكلام يشبه أن يكون عذراً عن الحجارة دون القلوب، والمراد بالقلوب ما اعتبرت عنواناً له وهو الوجدان والعقل، وأكثر ما تستعمل في الأوّل لأنّه سائق الإقناع والإذعان، ويطلق لفظ القلب على النفس الناطقة؛ لأنّ من شأن القلب أن يتأثّر ممّا يتأثّر منه الوجدان أو العقل أو الروح مطلقاً. وفي الكلام من المبالغة أنّ هذه القلوب فقدت خاصّة التأثر والإنفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات، التي هي من خواصّ الروح الإنسانيّ حتّى كأنّ أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى درجة الجماد كالحجارة، بل نزلوا عن دركة الحجارة أيضاً، وذلك ما أفاده قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74]. التفجّر: تفعّل من الفجر، وهو الشقّ الواسع يكون للمطاوعة، كفجّرته فتفجّر (بالتشديد فيهما) ويكون لتكرّر الفعل وحصوله مرّة بعد أخرى، ومثله التشقّق، إلاّ أنّه أعمّ، ولِما في التفجّر من معنى السعة عبّر به عن خروج الأنهار من الصخور الكبار، وهو معهود في الجبال، وعبّر بالتشقّق لخروج الماء الذي يصدق بالقليل منه.

السابقالتالي
2